كلمة العدد الاخير
دور القضاء الدستوري والمحاكم العليا في حماية الحقوق والحريات
أ.د. بدرية عبد الله العوضي
يعد دور القضاء الدستوري والمحاكم العليا في الدول الديمقراطية والقانونية دوراً أصيلاً وحاسماً في حماية الحقوق والحريات العامة والخاصة من تَغوُل السلطة وانحرافاتها. ويجد هذا الدور أساسه ليس فقط في الإعلانات العالمية أو الدساتير الوطنية أو القوانين أو الأعراف، بل في وجدان ووعي وتربية وتكوين الممارسين للقضاء، وواضعي لوائح وقوانين وأنظمة هيئاتهم التنظيمية والمهنية، بما يؤهلهم للفصل في النزاعات المختلفة، خاصة السياسية والدستورية والانتخابية والحزبية والمالية، بكل حيدة وموضوعية وكفاءة. ولا يعني ذلك بأن العاملين في هذا المرفق هم أناس لا يخطئون أو لا يقعون في دائرة الضغوط، إذ إن تلك الأنظمة ذاتها تتضمن آليات لمعالجات صارمة لأي خلل أو تجاوز.
وإذا كانت القوانين في غالبية الأنظمة تنص على أن الأحكام القضائية النهائية هي عنوان الحقيقة، وتحرص على إكسابها حجية مفترضة في مسعى لبسط الاستقرار والأمن القانونيين للمجتمعات، إلا أن الاستقلال الفعلي والحقيقي للسلطة القضائية وكفاءة ونزاهة القضاة، وتنفيذ الأحكام الصادرة عنهم، هو الذي يشكل فعلاً بيئة ومصدراً مهماً للأمن والاستقرار القانونيين، وضمانة للحقوق والحريات العامة والخاصة وللأموال العامة وغيرها. ولذلك فلا غرابة أن يشكل القضاء بهذه المواصفات سلطة تكفل العدل والتوازن والاستقرار، وتحفظ الحقوق وتسهم بذلك في نهضة الأمم.
ويكتسب دور القضاء ورجاله ومحاكمه، خاصة العليا منها والدستورية، أهمية متزايدة في ضوء التحديات الجديدة التي تفرضها التقنيات الحديثة أو تلك التي تنتج عن التحولات التاريخية في بعض المجتمعات.
ومن التطبيقات العملية في هذا المجال، يمكن الإشارة إلى حكم تاريخي للمحكمة العليا البريطانية – الذي ننشر في هذا العدد تعليقاً عليه لأحد الأكاديميين البريطانيين البارزين- صدر في 17 يناير 2017 وقضى بمسؤولية الحكومة البريطانية وأجهزة استخباراتها عن المشاركة في تعذيب أحد المعارضين الليبيين (ع. بلحاج)، وبأحقيته بمحاكمتها عن ذلك. وكان أحد قضاة المحكمة العليا قد رفض في 2013 النظر في القضية استناداً إلى القانون الخاص بمقومات الدولة، الذي لا يجيز محاكمة أعمال الحكومة السيادية والسرية والتي تتم بالتنسيق مع الدول الأجنبية خشية الإضرار بالعلاقات مع تلك الدول.
لكن محكمة الاستئناف التي نظرت في طعن للمدعي أمامها قضت بوجوب نظر المحكمة العليا في القضية، لجدية الدعوى وخطورة ما تضمنته من وقائع، وهو ما وافقت عليه المحكمة العليا وعقدت عدة جلسات للنظر في القضية انتهت في خاتمتها بالحكم المشار إليه. وفي مسعى لتفادي المحاكمة، اتفقت الحكومة البريطانية والمدعي على إصدار بيان تعترف فيه بمسؤوليتها عما جرى للمدعي وزوجته، وتقدم لهما تعويضا مالياً، وهو ما حصل في 10 مايو 2018، حيث أعلنت رئيسية الوزراء البريطاينة، تريزا ماي، في بيان أمام مجلس العموم اعتذار الحكومة رسمياً عما حصل، مشيرة إلى أن عبد الحكيم بلحاج وزوجته فاطمة بودشار تعرضا لـ امعاملة مروعةب، وأن بريطانيا قامت بتصرف أسهم في اعتقال الزوجين، وإن الحكومة كانت قد اشاركت معلوماتب بشأنهما مع اشركاء دوليينب.
كما يمكن الإشارة في سياق بيان دور القضاء الدستوري إلى حكم أخير صادر في 11 ديسمبر 2019 عن المحكمة الدستورية النمساوية أبطلت فيه أجزاء رئيسية من قوانين مراقبة إلكترونية تتضمن تثبيت برنامج لمراقبة الاتصالات الإلكترونية المشفرة، سنتها الحكومة اليمينية السابقة التي تتوفر على أغلبية برلمانية.
وقالت المحكمة إن قانون المراقبة ينتهك الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، لأنه لا يستهدف المشتبه في أنهم مجرمون فقط ولكن كل مستخدمي أنظمة الكمبيوتر التي تم تثبيت البرنامج بها… وأنه يمنح سلطات التحقيق معلومات شاملة عن الحياة الشخصية للمستخدمين بما في ذلك آراؤهم الشخصية وأسلوب حياتهم. كما ألغت المحكمة في حكم آخر لها قانوناً يمنح الشرطة الحق في الوصول إلى بيانات المركبات من خلال أنظمة التحكم في المرور.
وتكتسب التطبيقات الأخيرة أهمية كبيرة في ما يتعلق بدور المحاكم العليا والمحاكم الدستورية، حيث يعد حكم المحكمة العليا البريطانية تطوراً تاريخياً كبيراً لأنه يقر ولأول مرة بمسؤولية الحكومة عن الأعمال السرية السيادية التي ترتبط بدول أجنبية حليفة ويسمح بمحاكمتها، كما يعد حكما المحكمة الدستورية النمساوية تصدياً وإبطالاً لقرارات حكومة اليمين السابقة التي تنتهك الحريات الشخصية.
ورغم خصوصية تطور الأنظمة القضائية في الدول المختلفة، إلا أن التطبيقات السابقة يمكن أن تكون مصدر إلهام للمحاكم العليا والدستورية للقيام بدورها الأصيل والدستوري والقانوني في ضمان الحقوق والحريات بما يساعد في تحقيق العدالة المنشودة.