الحق في الصورة والإثبات الجنائي
أ.د. جميل عبد الباقى الصغير
استاذ القانون الجنائي بحقوق عين شمس – عميد الكلية سابقاً
الملخص
أدى تطور وسائل الإعلام (المقروءة، المسموعة، والمرئية) إلى زيادة الحاجة الي معرفة كافة الأحداث التي تقع في انحاء العالم، وقد شجع هذا التطور رجال الاعلام على نشر هذه الاحداث إشباعا لرغبة الجمهور، ودون تفرقة بين الوقائع التي يقبل الافراد إفشاءها وتلك التي يحجمون عن نشرها () وقد أدي ذلك إلى تعرية الانسان معنوياً وفكرياً وجسدياً، حيث كُشفت اسراره وأهدرت حرياته، خاصة وأن هذه الوسائل لم تعد قاصرة على التنصت على محادثاته الهاتفية بل امتدت بُقدرته الفائقة إلى التقاط صوره في مكان خاص وعن بُعد() .
كما تعمل بعض الصحف (مثل جريدة الحوادث في مصر) على نشر ما يحدث داخل المجتمع من فضائح ومشاكل أخلاقية تحت زعم حرية الاعلام وحق الرأي العام في الوقوف على الاحداث التي تقع في المجتمع، في حين أن القصد الحقيقي من وراء نشر هذه الأخبار هو تحقيق ارباح مادية نتيجة مضاعفة أعداد التوزيع والإعلانات.
كما تستخدم السلطات العامة في بعض الدول مثل فرنسا اساليب المراقبة الخفية مثل التنصت والتقاط الصور وهو ما من شأنه أن يؤدي إلى انتهاك حرمة الحياة الخاصة()، ولذلك أطلق البعض() على هذا التطور التقني في مجال استراق السمع والبصر تعبير «الوباء الالكتروني».
ومما زاد من خطورة المراقبة والتسجيل الالكتروني للمحادثات الهاتفية او الاحاديث الشفوية والتقاط الصور، أن التزاوج بين المعلومات ووسائل الاتصال ادي إلى استخدامه في التقاط الصور ثم بثها من خلال شبكة النت، بل وتم تحويل الهاتف المحمول إلى جهاز ارسال للمحادثات إلى اي جهة عن طريق موجات كهرومغناطيسية. مثال ذلك قيام أحد الأشخاص بالتقاط صور لمؤخرات الفتيات باستخدام الهاتف المحمول امام جامعة عين شمس ؛ وحالة الموظف الذي قام بوضع هاتفه المحمول في وضع التصوير أسفل حوض الحمام لالتقاط صور للسيدات اللاتي يدخلن التواليت لقضاء حوائجهن. وهناك أيضاً الشخص الذي قام بنشر عشرات الصور الشخصية الخاصة بفتاة تمثلها عارية على شبكة الإنترنت، مصحوبة بتعليقات نسب فيها إليها رغبتها في ممارسة الجنس مع من يشاء. كما نشاهد ايضا بعض الصور ومقاطع الفيديو التي تم تصويرها أثناء ارتكاب الجرائم بواسطة شهود عيان باستخدام الهاتف المحمول او بواسطة كاميرات مراقبة، وتسليمها لاقسام الشرطة او نشرها على شبكة المعلومات الدولية (الإنترنت).
كما توجد أجهزة مزودة بمرايا يمكنها التقاط الصوت والصورة معاً ()، وهناك أيضاً التليسكوب الذي بات معه التقاط صورة لشخص من مسافات بعيدة أمراً ميسوراً.
ونذكر على سبيل المثال حادثة حرق المجمع العلمي المصري يومي 17، 18 من ديسمبر 2011، حيث قامت وزارة الداخلية بعرض صور ومقاطع فيديو للأشخاص الذين ثبت تورطهم في هذا الواقعه علي شاشات التليفزيون، مطالبين المواطنين، ممن يتعرف على صور مرتكبي هذه الوقائع، بسرعة الإبلاغ عما لديهم من معلومات ؛ وفي نفس الوقت تستخدم تكنولوجيا التعرف الآلي على الوجه من خلال قاعدة البيانات التي تملكها مصلحة الأحوال المدنية بمناسبة إصدار بطاقات الرقم القومي حيث تضم صور من إستخرجوا هذه البطاقات. كما نذكر كذلك نشر صور مذبحة قسم شرطة كرداسه التي وقعت يوم الاربعاء الموافق 14 من اغسطس 2013 التي راح صحيتها 13 ضابطاً ومجنداً، حيث قام مسلحون بإقتحام القسم وقتلوا جميع الضباط الذين كانوا متواجدين فيه ومثلوا بجثثهم في ابشع جريمة من نوعها. وهناك أيضاً احداث العنف التي وقعت في ذات اليوم أمام ديوان عام محافظة أسوان والاعتدء على ضباط الشرطه على خلفية فض اعتصام رابعة العدوية والنهضة، والتي تم كشفها من خلال مقاطع فيديو قام البعض بتصويرها كشفت عن احتجاز وسحل 14 ضابطاً بمديرية أمن أسوان، بعد إضرام النيران في عدد سبع سيارات أمن مركزي والدور الأرضي بديوان محافظة أسوان. وهناك كذلك أحداث ملعب بورسعيد التي وقعت مساء يوم الاربعاء الموافق الاول من فبراير 2012 – عقب مباراة كرة قدم بين ناديي المصري والأهلي – وراح ضحيتها أكثر من 73 قتيلا ومئات المصابين.
وأمام الاهتمام البالغ بالوسائل العلمية الحديثة المستخدمة في كشف الجرائم والمساعدة في مسائل الإثبات الجنائي، ونظراً لما ينطوي عليه إستعمالها من إنتهاكات للحرية الشخصية بالمقارنة بالوسائل التقليدية، فإن التساؤل يثور عن مدى إمكانية التعويل من الناحية الاجرائية في الاثبات الجنائي على ما يتم الحصول عليه بمقتضي هذه الوسائل، متى كانت منتجة في إثبات الجرم على مرتكبيه؟ ومدى مشروعية التقاط صور الاشخاص واستخدامها أيضاً في الإثبات الجنائي أو أجهزة التعرف الآلي على الوجه لتحديد مرتكب الجرائم في وقت قياسي؟ خاصة وأنه من المعلوم أن الدليل لا يكون صحيحاً إلا إذا كان مستنداً إلى إجراءات مشروعة، تتفق وأحكام قانون الاجراءات الجنائية. لا سيما وأن المجرمين أنفسهم راحوا يستثمرون التقنيات الحديثة في إرتكاب الجرائم ثم إخفاء معالمها، على النحو الذي يصعب معه – إن لم يكن من المستحيل – معرفتها أو كشفها. مع الأخذ بالاعتبار في ذات الوقت أنه قد يساء – في الواقع العملي – استخدام هذه الأجهزة الحديثة في تحقيق العدالة، بل قد تستخدم بطريقة تخدش كرامة الفرد وتعرض حريته وأمنه للخطر. ولذلك يجب أن يكون هناك تلاؤم بين رد الفعل الاجتماعي وهذه النوعية من الجرائم.
فهذه الأجهزة المتطورة أضحت في استخدامها السلبي تمثل أدلة تهديد خطير لحق الإنسان في صورته وكرامته وحرياته.
ويجمع الفقه() على أن الحماية الفعالة لحرمة الحياة الخاصة ومنها الحق في الصورة، هي الحماية الجنائية، لأن الجزاءات المدنية لم تعد كافية.
وإذا كان المشرع الجنائي المصري والفرنسي يعاقب على التقاط صورة شخص في مكان خاص، فهل هذا يعني ان الحق في الصورة هو حق مطلق ام مقيد باعتبارات المصلحة العامة؟ وهذا التساؤل يثار لمعرفة مدى مشروعية نشر صور الاشخاص من متهمين أو مجني عليهم في قضايا جنائية بمعرفة وسائل الاعلام المرئية والمقروءة من عدمه، خاصة وان الحماية الجنائية للحق في الصورة يقتصر على التقاطها في مكان خاص، فلا تتمتع بالحماية الجنائية إذا التقطت في مكان عام، وإن كان هذا لا يمنع من المطالبة بالتعويضات المدنية إذا توافرت شروطها كما يثار التساؤل لمعرفة حكم استخدام صورة بمعرفة رجال الشرطة من خلال مصلحة الأحوال المدنية لعرضها على المجني عليهم والشهود لتحديد هوية الجناة، خاصة وأن الفرض في هذه الحالة أن هذه الصور قد أخذت بمعرفة مصلحة الأحوال المدنية وبموافقة صاحبها بمناسبة إصدار بطاقة الرقم القومي، ولم يتم التقاطها في مكان خاص.
وإمعاناً في حماية الحق في الصورة، جرم المشرع فعل إذاعة أو استعمال الصورة في محيط عام او خاص، بل وجرم فعل التهديد بإفشاء الصورة، وكذا نشر المونتاج.
وإذا كان قانوني العقوبات والاتصالات المصريين قد جرم فعل التقاط صورة شخص في مكان خاص، فإن ذلك قد يثير مشكلة فكرة التعدد المعنوي للجرائم والتنازع الظاهري للنصوص الجنائية.
كما أن الحماية الجنائية للحق في الصورة تستلزم تحديد المسؤول عن إرتكاب جريمة الاعتداء عليها عن طريق بثها من خلال شبكة المعلومات الدولية، او عن طريق الصحافة المرئية أو المكتوبة ودور متعهد الوصول ومتعهد الإيواء والمنتج والمؤلف ومستخدم الشبكة في هذا الصدد. كما تقتضي الحماية الإجرائية للحق في الصورة بيان دور القضاء المستعجل في وقف الاعتداء عليها. وفي النهاية، سيعالج البحث مدي مشروعية إستخدام الصورة التي تم الحصول عليها بطريق غير مشروع في مكان خاص كدليل في الاثبات الجنائي، سواء بالنسبة للأحكام الصادرة بالإدانة أو بالبراءة.
لذلك سنتناول بالدراسة في هذا البحث جريمة التقاط صورة الشخص في مكان خاص بدون رضائه، ومدى انطباقها على التقاط الصور للأشخاص في أماكن عامة، في التشريع المصري والكويتي والفرنسي، مبينين أوجه التشابه والاختلاف فيما بينها فيما يتعلق بالسلوك الاجرامي ووسيلة التقاط الصورة.
وسينقسم موضوع الدارسة إلى فصلين: نتناول في الأول الحماية الجنائية الموضوعية للحق في الصورة، ونعالج في الثاني مدى مشروعية الدليل المستمد من الصورة.