الخصوصية الجينية في الإجراءات الجنائية – دراسة مقارنة مع الإشارة إلى قانون البصمة الوراثية القطري لسنة 2013 والكويتي لسنة 2015

أ.د. أشرف توفيق شمس الدين
أستاذ ورئيس قسم القانون الجنائي بكلية الحقوق بجامعة بنها و المحامي بالنقض والإدارية العليا

الملخص

تمهيد: أفضى التقدم العلمي والتقني المعاصر إلى ميلاد ثورتين عملاقتين: الأولى هي ثورة المعلومات والاتصالات، والثانية هي ثورة التقنيات الحيوية. وإذا كانت ثورة الاتصالات والمعلومات وصلت أو كادت أن تصل إلى ذروتها؛ فإن ثورة التقنيات الحيوية مازالت في بدايتها وينبئ المستقبل بالتوصل إلى مزيد من النتائج الباهرة كثمرة لها. وترتكز الهندسة الوراثية أو التقنية الحيوية على التعرف على طبيعة الجينات المسؤولة عن نقل المعلومات الوراثية في جميع الكائنات الحية. ومن شأن ذلك أن يؤدي إلى فتح آفاق عديدة لاستخدام المعلومات الجينية في كثير من المجالات. فمن خلال فحص الجينات يمكن معرفة الكثير من الجوانب عن حياة الشخص، ليس فقط الجانب العضوي منه بل وكشف المزيد من الجوانب الأخرى المتصلة بالناحية الذهنية والعاطفية له.
وقد أفضى التقدم العلمي السريع للجينات الوراثية وتطبيقاتها في ميادين الطب والزراعة والطب الشرعي إلى إثارة مسائل جديدة تتعلق بالقانون والأخلاق والسياسة، سواء بالنسبة للفرد أو المجتمع. وقد أثار هذا التقدم مجدداً التساؤل عن الحدود الفاصلة بين ما يدخل في نطاق الحياة الخاصة للفرد، التي يجب أن يقف عندها الغير وألا يتجاوزها؛ وبين ما يخرج عن هذا النطاق. كما أثار هذا التطور التساؤل عما إذا كان كانت هذه الخصوصية تتعارض مع حرية البحث العلمي، وما يحمله من آفاق واسعة للتقدم وخدمة البشرية، فهل يمكن في هذه الحالة أن نقيِّد الحق في الخصوصية لتحقيق هذه المصلحة العامة؛ أم أن خصوصية الفرد لا تقل أهمية عن هذه المصلحة؟. لقد أثار هذا التقدم العلمي الشك في وجود الحق في الخصوصية أصلاً، ذلك أن هذا التقدم العلمي والتقني قد جعل الكثير من جوانب الحياة الخاصة للفرد محلاً لاطلاع الغير عليها، فضلاً عن أن هذا التقدم قد كشف الكثير من الأسرار الخاصة التي كان الفرد يحرص على إخفائها وعدم السماح للآخرين بالاطلاع عليها والتنقيب فيها.
لا شك في أن التقدم العلمي في مجال الجينات الوراثية والتكنولوجيا الحيوية قد أصبح حقيقة ملموسة. غير أن هذا التقدم وما يصاحبه من تجارب علمية وطرق بحثية ونتائج لها أهميتها، قد يؤدى إلى تعارض محتوم مع الكثير من المبادئ القانونية والتي تقف حاجزاً يشكل الحدود المقبولة قانوناً لهذا التقدم. ويجب على النظام القانوني أن يأخذ بعين الاعتبار هذا التقدم في مجال الجينات، وأن يقترح الوسائل المختلفة في التوفيق بينه وبين المبادئ القانونية المستقرة. فالتقدم العلمي في مجال الجينات الوراثية يثير الكثير من المسائل التي تتصل بحقوق الأفراد وحرياتهم، فقد يمس هذا التقدم بالأسس التي يقوم عليها علم الحياة ذاته، وقد ينال من الحق في الكرامة الإنسانية التي تكفلها الدساتير المختلفة.
– صعوبة حماية الخصوصية الجينية: إن الحفاظ على خصوصية وسرية المعلومات الجينية يبدو أمراً صعباً، وسبب ذلك يرجع إلى منهج البحث العلمي في المجال الجيني، وإلى طبيعة المعلومات الناتجة منها. فإجراء البحوث الجينية يقتضي الوقوف على معلومات عن الشخص وأقاربه الذين يتوافر لديهم الجينات المسببة للمرض، إذ ترجع غالبية الأمراض الوراثية إلى وجود خلل جيني. وإذا كانت بعض المعلومات الجينية مثل لون الشعر أو البشرة وغيرها تكون واضحة للعيان، ومن ثم فلا مجال للحفاظ على سريتها، فإن هناك معلومات جينية أخرى تبدو أقل وضوحاً للآخرين، ومثالها المتعلقة بمخاطر تطور العلل الصحية في المراحل المتأخرة من الحياة. ومعرفة هذه المعلومات قد يؤدي إلى تهديد الخصوصية الفردية والحرية الشخصية. وهنا يثور التساؤل عمن يملك الحق في الاطلاع على مثل هذه المعلومات التي تتصل بصميم الحياة الخاصة للشخص؟ وما هي القواعد التي ترسي حدوداً للاطلاع على معلوماتنا الجينية، وما هي الطريقة التي يجب اتباعها لتحقيق ذلك؟. وإذا كان للمعلومات الجينية هذه السمات الفريدة، فهل يجب أن تحاط هذه المعلومات بسياج خاص يحمي خصوصيتها؟.
– دقة البحث وأهميته: يثير البحث التساؤل عن مدلول الحق في الخصوصية الجينية؟ وعن عناصر هذا الحق، وعن مقدار أهمية المعلومات التي يمكن أن تفصح عنها الجينات الوراثية ؟. وتثير الدراسة التساؤل عن تحديد نطاق هذا الحق وحدود المساس المشروع به في الإجراءات الجنائية، فما هي ضوابط هذا المساس، ومتى يكون الحصول على البصمة الوراثية والاطلاع على المعلومات الناتجة من الفحص الجيني جائزاً؟ وهل يتوقف هذا الاطلاع على رضاء الشخص؛ أم أن هذا الرضاء غير لازم؟ وهل تبيح حالات الاطلاع على هذه المعلومات، تخزين البصمة الجينية، أم أن ذلك لا يعد جائزاً؟
وتثير الدراسة التساؤل عن مدى حق صاحب البصمة الجينية الذي قضى ببراءته أو انتهت قضيته بصدور أمر بألا وجه لإقامتها، فهل يجوز الاحتفاظ بهذه العينة الجينية وما نتج عنها من معلومات؛ أم أن الاحتفاظ بها ينال من حق الشخص في الخصوصية الجينية؟
وتثير الدراسة التساؤل أيضاً عما إذا كانت الدولة تملك التوسع في الحصول على البصمة الوراثية للأفراد الذين يتواجدون على إقليمها أم أن هذا التوسع ينال من الحق في الخصوصية، وهو حق دستوري لا يجوز للدولة التوسع فيه دون مقتضٍ؟ وتزداد أهمية هذا التساؤل في ظل صدور تشريعات من بعض الدولة العربية تنطوي على توسع كبير في الحصول على البصمة الوراثية وتخزين نتائج تحليلها.

كما أن موضوع البحث يتصف بقدر من الدقة، فهو يتناول بالدراسة بعض الجوانب القانونية لعلم الجينات، وهو علم يتسم بالحداثة وسرعة التطور، ويتصف كذلك بسرعة ما يتم التوصل إليه من نتائج متلاحقة، مع التسليم بأهميتها البالغة على الفرد والمجتمع. الأمر الذي يجعل من الصعب على علم القانون أن يتوقع هذه النتائج، وأن يحيط بها، وأن يضع لها التنظيم المناسب الذي يضمن كفالة حقوق الأفراد وحرية البحث العلمي. وقد أفضت حداثة الموضوع كذلك إلى غياب النصوص التشريعية في الكثير من الأنظمة القانونية، وحتى بالنسبة للتشريعات التي أفردت نصوصها حماية خاصة للحق في الخصوصية الجينية، فإن هذه النصوص تتصف- مع ذلك – مع قلتها وندرة ما عرض على القضاء من وقائع توجب تطبيقها، وقلة الكتابات الفقهية التي تناولتها بالدراسة؛ بل وتتصف بكثرة التعديلات المتلاحقة التي تمت عليها في وقت قصير نسبياً، وهو ما يجعل من متابعة هذه التعديلات أمراً يتصف بقدر من الصعوبة.
– خطة الدراسة وتقسيمها: نقسم الدراسة إلى مبحثين وخاتمة. نتناول في المبحث الأول: ماهية الحق في خصوصية المعلومات الجينية، وفي الثاني نبحث نطاق هذا الحق وحدود المساس المشروع به. وفي الخاتمة نخلص إلى أهم نتائج الدراسة.

البحث كاملا بصيغة PDF (باللغة العربية)