جـرائمُ مخـالفـةِ لقواعد الحوكمة – دراسة نقدية مقارنة – الكويت ولبنان
د. جرجس طعمه
أستاذ مساعد – كلية الحقوق الجامعة اللبنانية – لبنان
الملخص
تعدّدت التعريفات التي أطلقت على «الحوكمة»، فاعتبر البعض بأنها ترجمة مختصرة لمصطلح Corporate Governance وهو يعني علمياً «أسلوب ممارسة سلطات الإدارة الرشيدة»() في حين عرّفها البعض الآخر بأنها:«تحقيق الشفافية والعدالة ومنح المساهمين حقّ مساءلة إدارات الشركات». ولقد عرّفت مؤسسة التمويل الدولية الحوكمة بأنها: «النظام الذي يتمّ من خلاله إدارة الشركات والتحكّم في أعمالها»() في حين عرّفتها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD بأنّها: «مجموعة من العلاقات فيما بين القائمين على إدارة الشركة ومجلس الإدارة وحملة الأسهم وغيرهم من المساهيمن» .
أما في فرنسا فقد ظهر هذا المصطلح ( Gouvernance) للمرة الأولى في القرن الثاني عشر واقتصر مفهومه على مهمات إدارية وقضائية يقوم بها بتكليف من الملك وكيل يعينه للغاية المذكورة، وفي إنكلترا يعود هذا المصطلح أيضاً إلى العصور الوسطى حيث كان يقصد به وسيلة أو طريقة تنظيم السلطة الإقطاعية إلاّ أنّ هذا المدلول في اللغة الانكليزية قد تغيّر في الربع الأخير من القرن العشرين بحيث أصبح يشكل مصطلحاً في عالم الأعمال والمشاريع، أمّا في عالم اليوم الذي بات له مصطلحاته التي تفتق عنها التطوّر التكنولوجي السريع من مثل مصطلح «العولمة»، «العالم قرية كونية»، «الشمولية»، «انفتاح الأسواق» ورفع العوائق والحدود الجمركية …فإنّ «الحوكمة» أصبحت أحد هذه المصطلحات، حتى أنّ البعض ذهب إلى اعتبارها وليدة الديمقراطية () التي تتعزز وتترسخ في عالم اليوم يوماً بعد يوم.
في الخلاصة أرى بأنّ الحوكمة لا تقتصر على الإدارة الرشيدة للشركات بما يؤمن مصالح الشركة والشركاء والمستهلك فقط، بل تتعداها لتشمل أيضاً مصالح العمال والموظفين والدائنين والمتعاملين معها والاقتصاد الوطني والإدارة بمفهومها العام أي الدولة وأبرز ما فيها الخزينة العامة.
أمّا بالنسبة للجريمة فأعرِّفها بأنها: «كل سلوك سواء كان فعلاً أو امتناعاً يجرّمه نصّ جزائي ويفرض عقوبة أو تدبيراً عليه أو الاثنين معاً» ولا يخفى بأنّ الجرائم الاقتصادية باتت تشغل في عصرنا الحاضر حيزاً واسعاً من الاهتمام يتضاعف بتضاعف أعدادها وأنماطها مع التطور المتسارع الذي يشهده عالم اليوم بازدياد مطرّد، وبالتالي فهي سلوكيات تلحق الضرر أو تهدّد بالخطر مصالح اقتصادية أراد المشرع حمايتها، ولقد عرّف البعض الاقتصاد على الشكل التالي:
“L’économie n’est pas qu’une accumulation de chiffres, de statistiques,de diagrammes: il s’agit d’activités humaines basées sur des projets politiques et sociaux ”.
من هنا، فإنّ كل نصّ تجريمي يتضمّن جريمة اقتصادية يهدف إلى تحقيق سياسة المشرع الاقتصادية عبر حماية مصلحة عامة وأخرى خاصة وإن تفاوتت نسب تظهير أيّ من المصلحتين بين نصّ وآخر حسب نوع الجريمة وطبيعتها. ولئن كان الكثير من الباحثين في الجرائم الاقتصادية يجد صعوبة في وضع تعريف قانوني مانع وجامع لها، وذلك يعود إلى كون هذه الجرائم ترتبط بالسياسة الاقتصادية للدولة والتي تختلف بين نظام اقتصادي وآخر، ممّا يجعلها جرائم مرنة تتغيّر بتغيّر الظروف الاقتصادية، الأمر الذي يتعارض مع القانون الجزائي ومفاهيمه، إلاّ أنّ البعض الآخر يعرّفها بأنّها: «كل فعل أو امتناع يعاقب عليه القانون، ويخالف السياسة الاقتصادية للدولة»، وانطلاقاً من كلّ ما تقدّم يتجلّى لنا واضحاً بأن الجرائم المخالفة لقواعد الحوكمة هي جرائم اقتصادية من الدرجة الأولى، نظراً لأنها تضرّ بمصالح اقتصادية لا تتوقف برأيي عند حدّ المصلحة الفردية أو الخاصة، بل تتسع أكثر لتشمل مصالح عامة أيضاً وهذا أمر طبيعي لكونها جرائم ترتكب من قبل أو بواسطة أو بإحدى أدوات أو تحت ستار المؤسسات التجارية والاقتصادية والمالية ومنها الشركات. وتتعاظم جسامة هذه الجرائم لناحية ضررها وخطرها إذا ما علمنا أنّ العديد من الشركات والمؤسسات المالية الضخمة في العالم أصبحت موازناتها توازي موازنات بعض الدول إن لم نقل تتخطاها، وتكثر الجرائم المخالفة لقواعد الحوكمة كمّاً ونوعاً، خصوصاً خلال الأزمات الإقتصادية والتي تساهم بعض الشركات والمؤسسات العامة والخاصّة في تفاقمها إن لم نقل في نشوئها سواء عن قصد أو عن خطأ، وهذا ما شهدته بعض دول شرق آسيا وأمريكا اللاتينية وروسيا في تسعينات القرن العشرين وكذلك الاقتصاد الأميركي الذي شهد منذ العام 2002 انهيارات مالية واقتصادية لا يزال يعاني منها إلى الآن.
أما على صعيد السياسة التشريعية التجريمية وأسسها فأرى بأنّ موضوع الحوكمة يمتاز بخصوصية تجب مراعاتها، وتتمثل في أنّ من أهدافه حماية الشركة، وتعزيز الاقتصاد الوطني، وليس فقط حماية الشركاء والمستهلكين. من هنا يقتضي أن تكون النصوص التشريعية التجريمية العقابية متوافقة مع هذا التوجه إذ لا يجب أن تساهم هذه النصوص في خنق الشركات والمؤسسات الاقتصادية أو إضعافها؛ لأنها عصب الحياة الاقتصادية، ومن شأن ذلك أن يؤدي إلى نتائج معاكسة تماماً عمّا رمى إليه المشرع من خلال وضعه قواعد الحوكمة ونصوصاً جزائية تضمن الالتزام بها، فالهدف هو تصحيح المسار الخاطىء وليس قطع رأس الشركة أو المؤسسة، ومن جهة أخرى لا يجب إثقال كاهل هذه الشركات بالضرائب ومجازاتها بالعقوبات القاسية ومنها المالية، فأكثر المناطق ازدهاراً ونجاحاّ هي المناطق التي تخف فيها الضرائب والجزاءات المالية على المؤسسات الاقتصادية.
في كلّ ما ذكرنا تكمن، أهمية هذا البحث لكونه يتناول موضوع النصوص القانونية التي تجرّم السلوكيات المخالفة لقواعد الحوكمة والتي تقف عائقاً أمام انحراف الإدارة أو سوئها وتساهم في الحؤول دون التسبب بأضرار جمةٍ تلحق بالأفراد والكيانات الاقتصادية والمالية العامة، ما يبرز معه وجوب تقويم هذه النصوص ووضعها في ميزان المبادىء القانونية وأخصّها أسس التجريم والعقاب والصياغة السليمة من جهة، وتحقيق المصلحة المبتغاة والأهداف المرجوة من وراء تطبيق الحوكمة من جهة أخرى.