دور المحاكم الدستورية والمحاكم العليا في تحديد ملامح الحق في الخصوصية وضمان احترامه من قبل باقي سلطات الدولة
د. عاصم خليل
أستاذ القانون العام وعميد كلية الحقوق والإدارة العامة – جامعة بيرزيت
أ. نوار بدير
مساعدة بحث – جامعة بيرزيت
الملخص
إن حقوق الإنسان ومن ضمنها الحق في الخصوصية، والتي تشكل جزءاً من الحقوق الشخصية، تتسع وتتطور في ظل العصر الحديث، وإن حماية أي حق يتطلب بالإضافة إلى وجود نص قانوني يحميه توافر ضمانات عدم انتهاكه، وتتراوح هذه الضمانات بين القانونية والقضائية، سواء الدولية والإقليمية أو الوطنية، فلكل منا حياته الخاصة التي لا يود أن يطلع عليها أحد دون علمه؛ كونها مستودع سره الذي ترافقه.
وعلى الرغم من تنظيم الحق في الخصوصية في بعض التشريعات إلا أنها تفتقد إلى حماية فعالة، في ظل التطور العلمي والتكنولوجي، وتزداد خطورة الوسائل الفنية الحديثة المستخدمة للمراقبة لشيوعها وتداولها، وسهولة الحصول عليها، كما أن بعض أسعارها معقولة، ومطروحة أيضا في الأسواق، ومن الصعوبة الحصول على دليل مادي يحدد لنا حجم استخدام هذه الأجهزة ومداها. الأمر الذي ينتهك خصوصية الفرد، ويزداد الوضع سوءاً إذا تم استخدام هذه الأجهزة من قبل سلطات الدولة، دون اتباع القيود القانونية. وأدى ذلك إلى شيوع الرقابة الفعلية التي تسلط الضوء على تحركات الأفراد وأحاديثهم بواسطة أجهزة دقيقة تستخدم في ذلك، وبين الرقابة النفسية التي تهدف إلى التجسس على عقل الفرد ومعرفة أفكاره وأحاسيسه، وما يجول في خاطره من خلال مقاييس واختبارات، تتنوع بين «أجهزة الكشف عن الكذب» و «مصل الحقيقة»، حيث يتم استخدامهم للكشف عن الدروب الشخصية وكذلك لأغراض التعيين في الوظائف() وإن كان للتكنولوجيا وتطورها ايجابيات عديدة، إلا أن هذا التطور رافقه خوف من إساءة استخدام المعلومات في غير مصلحة الأفراد والخروج عن الهدف الأساسي منها.
إن احترام الحياة الخاصة للفرد تشكل خطوة إيجابية على الصعيد الدولي والوطني؛ لإقرار العدل والسلام بين أفراد الجماعة الدولية، فضلاً عن تحقيق التوازن بين الحق في الإعلام والوصول إلى المعلومة والحق في حماية المصالح الخاصة للأفراد، في ظل التطورات التكنولوجية.
وتكمن أهمية هذا البحث من كونه يناقش حق عصري ومتطور، يواجه تحديات عند تطبيقه في ظل التطورات التكنولوجية من جهة، وتحديات اقتصادية وسياسية وأمنية من جهة أخرى؛ فضلاً عن التحديات التقليدية المرتبطة بثقافة الدولة وإرثها التاريخي الذي يقيد هذا الحق.
وتأتي هذه الدراسة للإجابة على التساؤلات التالية: كيف نظمت التشريعات الوطنية والاتفاقيات الدولية الحق في الخصوصية؟ وهل تعتبر الضمانات القانونية كافية لحماية هذا الحق؟ كيف تساهم المحكمة في رسم معالم هذا الحق التي تحيط به الضبابية؟ وما هو دور المحاكم الدستورية في سد الثغرات الموجودة بالقانون في ظل عدم القدرة على مجاراة التطورات التكنولوجية؟
وتهدف هذه الدراسة في الأساس إلى بيان مدى ملائمة التشريعات الوطنية والمواثيق الدولية في حماية الحق في الخصوصية؛ وتوضيح عناصر هذا الحق في إطاره العام؛ وتسليط الضوء على دور مؤسسات الدولة وبالتحديد المحاكم العليا في حماية الحق في الخصوصية وتوفير الضمانات المناسبة له؛ ومحاولة الخروج بتوصيات تهدف إلى توفير حماية معقولة لهذا الحق في ظل التحديات التي يواجهها.
وستهتم هذه الدراسة بتسليط الضوء على حماية الحق في الخصوصية في التشريع الفلسطيني والأردني والمصري والجزائري، وبالتحديد مفهوم هذا الحق وعناصره، ودور المحاكم العليا في كل من هذه الدول؛ وقد تم استثناء جرائم الحاسب الآلي ودورها في انتهاك هذا الحق، تاركين هذا المجال لباحثين آخرين().
ولتحقيق الأهداف المرجوة من البحث، وجدنا أنه من المناسب اتباع المنهج الوصفي والتحليلي أحياناً والمقارن أحياناً أخرى. فمن خلال المنهج الوصفي سيتم التعريف بواقع الحق في الخصوصية وعناصره ودور القضاء في حمايته وسد ثغراته القانونية؛ وباستخدام المنهج التحليلي سيتم التعامل مع النصوص القانونية الوطنية والدولية ذات العلاقة بالموضوع بحيث يتم استنباط القواعد القانونية ذات العلاقة بالحق بالخصوصية وفحص مدى انطباقها على الظواهر موضوع الدراسة؛ في حين سنعالج من خلال اتباع المنهج المقارن حق الحماية في الخصوصية في التشريع الفلسطيني والجزائري والمصري والأردني ومقارنة الاجتهادات القضائية التي توصلت لها مع تطبيقات من أنظمة قانونية مختلفة.
وسنقسم البحث إلى مبحثين، مع تعرضنا في مبحث تمهيدي عن مفهوم الحق في الخصوصية؛ ومن ثم ننتقل في المبحث الأول لمعالجة اجتهادات المحاكم لتحديد معالم الحق في الخصوصية؛ وأخيراً سنعالج في المبحث الثاني دور المحاكم الدستورية والمحاكم العليا في ضمان حماية الحق في الخصوصية.