التخلف العقلي وأثره في المسؤولية الجنائية

د. نوفل علي عبد الله الصفو
أستاذ القانون الجنائي المشارك كلية الحقوق – جامعة الموصل

الملخص

إن التطورات التي شهدها الطب، وتوسع الأبحاث العلمية أثبتت وجود حالات من الإصابة بعاهات عقلية لا تفضي إلى فقد الإدراك أو الاختيار بشكل كامل، وإنما يتوقف تأثيرها على الانتقاص من أحدهما أو كليهما، مما يؤدي بالنتيجة إلى ظهور طائفة من المصابين عقلياً يتوسطون في ملكاتهم الذهنية بين العقل وانعدامه، أي أن هذه الطائفة يمتلك أفرادها قدراً من التمييز لا يصل إلى درجة العقلاء، ولا ينعدم كما في حالة المجانين، وهذه الحالة تعرف بالتخلف العقلي والتي يقصد بها نقص العقل وقصوره، وأن العبرة في مجال نفي المسؤولية الجنائية أو إنقاصها يكون من خلال الأثر الذي يحدثه الخلل أو العاهة العقلية أو النفسية بغض النظر عن اسمها أو وصفها، فإن كان من شأنها إضعاف العقل بشكل شديد على نحو يفقد المريض معه القدرة على إدراك ماهية أفعاله، أو وجه الخطأ فيها بحيث تجعل القانون لا يعتد بعناصر المسؤولية المتوافرة لديه، فلا تكون لها قيمة قانونية نتيجة لانعدام الإدراك أو الاختيار أو النقص الحاد فيهما، فإن المصاب تمتنع مسؤوليته الجنائية وإن تمتَّع بقدرٍ ضئيلٍ من الإدراك أو الاختيار لكن دون ما يتطلبه القانون للاعتداد به، أما إذا كان من شأن التخلف العقلي إضعاف العقل على نحو ينقص الوعي فحسب فإنه يُعد سبباً من أسباب انقاص المسؤولية وتخفيف العقوبة. ويُقصد بالتخلف العقلي النقص في نمو العقل وتطوره ونضوجه يؤدي إلى نقص في الذكاء حتى ليعجز ناقص العقل من العيش مستقلاً بنفسه أو حماية نفسه ضد المخاطر ومن استغلال الآخرين له، والأسباب المؤدية إلى الإصابة به متعددة؛ بعضها يصاب بها الجنين وبعضها تؤدي إلى إصابة الطفل بعد ولادته، وإن التخلف العقلي لا يكون بدرجة واحدة في جميع الحالات، وإنما يكون على مستويات أو درجات متفاوتة حسب مستوى الذكاء الذي يتمتع به الشخص، وإن التخلف العقلي يختلف عن حالة الجنون إذ إن لكلٍ منهما أسبابه وأنواعه وأعراضه ، وإن المصاب بالتخلف العقلي يمتلك نسبةً من الإدراك والتمييز مهما قلَّت لا تصل إلى درجة الجنون الذي يؤدي إلى انعدام العقل كما في حالة الجنون التام. والمشرِّع العراقي تبنى المعيار المختلط البيولوجي – النفسي في تحديد معيار الجنون المانع من المسؤولية الجنائية، وهو معيار يشترط توافر العارض المرضي من جهة، وإفضائه إلى انتفاء الأهلية الجنائية وانعدام القيمة القانونية للإرادة من جهة اخرى، فالجنون أو عاهة العقل لا يُعد في ذاته مانعاً من المسؤولية الجنائية فإذا لم يترتَّب على كل منهما الفقد التام لعنصري الأهلية الجنائية الإدراك والإرادة أو أحدهما وقت ارتكاب الفعل فلا محل لامتناع المسؤولية الجنائية، ويشترط لامتناع المسؤولية الجنائية بسبب الجنون أو عاهة العقل أن يكون الجنون أو عاهة العقل نافياً للأهلية الجنائية، وأن يكون الجنون أو عاهة العقل معاصراً لارتكاب الفعل. أما فقهاء الشريعة الإسلامية فاتفقوا على أن الجنون الذي يعدم الإدراك لا يبيح الفعل المحرَّم، وإنما يترتَّب على الجنون المعاصر للجريمة رفع العقوبة عن الجاني لانعدام إدراكه، إلا أن هذا الإعفاء من العقوبة الجنائية لا يعفيه من المسؤولية المدنية، أما نقص الإدراك فإنه لا يعفي من العقاب طبقاً لقواعد الشريعة العامة، وقد ذهب البعض إلى أنه يؤدي إلى تخفيف العقوبة باعتبار الفاعل معذوراً، في حين يرى البعض الآخر تشديد العقوبة من أجل ردع أمثال هؤلاء عن ارتكاب الجرائم.

البحث كاملا بصيغة PDF (باللغة العربية)