الموازنة بين حق الممول في الخصوصية وحق الإدارة الضريبية في الحصول على المعلومات

أ.د. رمضان صديق
أستاذ التشريعات المالية والضريبية – عميد كلية الحقوق جامعة حلوان

الملخص

يسجل التاريخ أن مصر الفرعونية هي أول من عرف السر المهني، حيث كان صاحب الصنعة ملزماً بالحفاظ على أسرار العمل، كما كان الطبيب ملتزماً بالحفاظ على الأسرار، فإذا خالفها وتوفي المريض دفع الطبيب رأسه ثمناً لذلك. وإن أول من وضع قاعدة السر المهني عند الأطباء هو أبوقراط، ويروى أنه قال: «إن كل ما يصل إلى بصري وسمعي وقت قيامي بمهمتي، أو في غير وقتها مما يمس علاقتي بالناس ويتطلب كتمانه سأكتمه، وسأحتفظ به في نفسي، محافظتي على الأسرار المقدسة».ثم انتقل هذا الالتزام إلى القساوسة، ثم المحامين الذين ورثوا بدورهم هذا الالتزام من القديسين، لأن المحامي نتاج من عالم القديس الذي كان يرتدي الجبة. والعلاقة بين السر secret والقداسة sacred واضحة في اللفظ الأجنبي.
ومن الهدي النبوي أدلة كافية على ضرورة حفظ الأسرار، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «الحديث بينكم أمانة»، و»آية المنافق ثلاث ….إذا أو تمن خان»، وأوصى أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه: «سرك أسيرك، فإذا تكلمت به صرت أسيره، وأعلم أن أمناء الأسرار أقل وجوداً من أمناء الأموال، فحفظ الأموال أيسر من كتم الأسرار»، وقال الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز: «القلوب أوعية، والشفاه أقفالها، فليحفظ كل إنسان مفتاح سره».
وقد أوصى فقهاء الشافعية الأطباء بأن يغضوا أبصارهم عن المحارم عند دخولهم على المرضى، وألا يفشوا الأسرار، ولا يهتكوا الأستار، ولا يتعرضوا لما ينكر علمهم .
وقد أصدرت المنظمة العالمية للطب الإسلامي ما يعرف بالدستور الإسلامي لمهنة الطب، والذي جاء فيه :«إن حفظ أسرار الناس وستر عوراتهم واجب على كل مؤمن، وهو على الأطباء أوجب، ويجب على الطبيب أن يصون أي معلومات وصلت إليه خلال مزاولته مهنته عن طريق السمع أو البصر أو الفؤاد أو الاستنتاج، وأن يحيطها بسياج كامل من الكتمان». ويقول المثل العربى: «كل سر جاوز الاثنين شاع»، و «إذا ضاق صدرك بسرك فصدر غيرك به أضيق». و قال الأستاذ بيرنارد هور في مؤلفه «الأسرار المهنية»: «أقول ليس هناك دفاع جيد دون اعترافات.. ولا اعترافات دون ثقة.. ولا ثقة دون سر».
تعريف السر في القانون:
هو كل ما يضر إفشاؤه بالسمعة والكرامة، ويرى بعض الباحثين أن النبأ يصح أن يعد سراً ولو لم يكن البوح به مشيناً بصاحبه إذا ترتب على إفشائه ضرر أدبي أو مادي بصاحبه.
يذهب القضاء الفرنسي إلى اعتبار النبأ سراً، ولو كان شائعاً بين الناس، طالما لم يتأكد، وبعدها تزول عنه صفة السرية . ويرى فقهاء القانون إلى أنه ليس سراً يؤتمن ما بلغ الشخص من وقائع لم يعلمها بصفته الوظيفية، كأن يرى الطبيب زوجة المريض تمزِّق وثيقة خاصة به، أو ما ارتبط ببحث علمي ينشر فيه الطبيب خبرته في علاج مرض معين دون أن يذكر المريض الذي عالجه، أو أن يكون الأمر شائعاً بين عدد كبير يصعب إحصاؤهم، أو أن يكون في كتمان السر خطراً يجب الإبلاغ عنه قبل وقوعه، لأن كتمان السر هنا يتحول إلى جريمة يعاقب عليها القانون.
وفي الشأن الضريبي يتطلب ملء الإقرار الضريبي أن يفصح الممول أمام السلطات الضريبية عن كثير من المعلومات أو البيانات الشخصية، مثل بيانات عن هويته ومكان إقامته وحالته الاجتماعية، ومن يعولهم أو يتصل بهم، ودخله وإيراداته وتبرعاته، أو مساهماته الخيرية ونفقاته العلاجية أو الطبية وغيرها، كما يتعيِّن عليه أن يحتفظ بسجلات تفصيلية ودفاتر محاسبية تدوِّن حساباته على أن تكون دقيقة أو كافية لإعداد إقراره الضريبي اللازم للإفصاح عند المراجعة الضريبية.
وفي الحفاظ على السرية التزام أخلاقي تفرضه اعتبارات المروءة وحسن العلاقات بين الناس، فإن الإنسان الذي اختار شخصاً ليودعه سراً من أسراره، فإنما يكون قد اختصه بذلك لاعتقاده في حسن أخلاقه وعدم تصور أن يفشي السر، وما قد يقع عليه من ضرر نتيجة ذلك يأتي من هذا الشخص الذي ائتمنه. ومن ثم كان إفشاء السر الواجب كتمانه ردة أخلاقية تفقد الناس ثقتهم في من يتعاملون معهم، على الرغم من أن الممول يود لو كانت هذه المعلومات ملكاً له وحده لا يجبر أن يبوح بها إلى أي أحد ولو كانت مصلحة الضرائب.
مشكلة البحث:
تتمتع الإدارات الضريبية بسلطات واسعة، وهي تمارس اختصاصها بفرض الضرائب، وربطها، وتحصيلها، على كافة الممولين الخاضعين لأحكام قوانين الضرائب المختلفة. ومن بين هذه السلطات حق الإدارة الضريبية في الحصول على المعلومات، التي تساعدها في كشف حقيقة نشاط الممول ومعاملاته، ومدى التزامه بقانون الضرائب، وعدم التهرب من الالتزامات الضريبية.
ويتيح قانون الضريبة للإدارة الضريبية الحق في الحصول على هذه المعلومات من الممول نفسه، أو من الغير، سواء برضاء الممول، أو بغير رضاه، ولها أيضاً أن تطلع على كافة السجلات والمعلومات والبيانات التي تكون في حوزة الممول، أو غيره من الأفراد والجهات الحكومية وغير الحكومية.
وقد أثارت هذه السلطات الواسعة التساؤل عن مدى مشروعيتها، في ظل تعاظم الاهتمام بحقوق الإنسان، ومن بينها حقه في الخصوصية، حيث يتهم بعض الباحثين التشريعات الضريبية بانتهاك هذا الحق من خلال تغوُّل الإدارة الضريبية وتعسفها في ممارسة سلطاتها التي خولها لها القانون. ومما زاد من وطأة هذا الاتهام ما لوحظ في السنوات الأخيرة من زيادة ملحوظة في إبرام اتفاقيات ضريبية دولية تمكُّن السلطات الضريبية من تبادل المعلومات الخاصة بالممولين بين الدول المختلفة، مما يؤدي إلى مزيد من انتهاك خصوصية الممول على المستويين الوطني والدولي.
لذلك حرصت التشريعات الضريبية على توفير عدد من الضمانات القانونية التي تكفل احترام حق الممول في الخصوصية، وعدم المساس بهذا الحق إلا في الحدود التي تكفل تطبيق قانون الضريبة دون تجاوز، وأن لا تستخدم البيانات التي حصلت عليها الإدارات الضريبية إلا لأغراض تطبيق قانون الضريبة، وأن تراعي الدول عند تبادلها للمعلومات الضريبية حق الممول في احترام خصوصيته، سواء التي تتعلق بذاته، أو بنشاطه، أو بأسرار مهنته، أو بقدرته التنافسية في السوق.
ونهدف من هذا البحث إلى تعيين حدود الموازنة بين حق الإدارة الضريبية في الحصول على المعلومات اللازمة لتطبيق قوانين واتفاقيات الضرائب، وبين حق الممول في احترام خصوصيته، وذلك في إطار مقارن، للوقوف على كيفية تحقيق هذا التوازن، وما يقترح لضمان ذلك في التشريعات العربية.
خطة البحث:
نرى أن يتكون هذا البحث من ثلاثة مباحث على النحو الآتي:
المبحث الأول: حق الممول في الخصوصية.
المبحث الثاني: حق الإدارة الضريبية في الحصول على المعلومات.
المبحث الثالث: الضمانات القانونية لاحترام حق الممول في الخصوصية.

البحث كاملا بصيغة PDF (باللغة العربية)