وظائف حسن النية في قانون المعاملات المدنية الإماراتي رقم (5) لسنة 1985 – دراسة مقارنة
أ. د. نوري حمد خاطر
أستاذ القانون المدني – كلية القانون جامعة الإمارات العربية المتحدة
الملخص
تحتل القيم الأخلاقية مكانة رفيعة في المجتمع، لأنها النموذج الذي يتحتم على كل فرد نهجه في حياته؛ فالأخلاق قوة راسخة في الإرادة تتوق إلى اختيار ما هو خير أو ما هو شر، ولا يمكن للضمير أن يكون حياً ومسؤولاً مالم يملأ بمحددات أخلاقية يستطيع بها تحقيق الخير ونبذ الشر والشعور بالالتزام تجاه القيّم، والمحددات عبارة عن فضائل ترسخ إرادة الخير؛ وهي العدل والتسامح والشجاعة والعفة والمحبة والإحسان والشعور بالمسؤولية والصدق والأمانة. إن كل هذه الفضائل وغيرها واجبات أخلاقية ينبغي على كل إنسان سوي أن يرتديها في تصرفاته مع الغير.
ولكن أين مكانة حسن النية بين هذه القيم الفاضلة، وكيف نوظفها في القانون؟ يرتبط حسن النية بالضمير الداخلي للشخص أي النية الحقيقية له؛ ولكي يكون سوياً عليه أن يوافق سلوكه الظاهر مع نواياه الحقيقية؛ لهذا يذهب الفقيه (Ghestin) إلى أن حسن النية هي الموافقة بين النية الحقيقية والتصرف الظاهر لكل شخص، وبذلك يتحقق خير المجتمع وسعادة الإنسان. وتحقيق كل ذلك يقود حتماً إلى الصدق والاستقامة والثقة المشروعة، خلافاً لسوء النية التي لا تقود إلا إلى التدليس والغش والخداع والاحتيال والإضرار بالغير.
من أجل ذلك أولى الفقهاء المسلمون عناية خاصة بالنية؛ فعند الشاطبي «النية محلها القلب في كل موضع لأن حقيقتها القصد مطلقاً، وقيل القصد المقارن للفعل، ذلك عبارة عن نقل القلب»، وأكد البيضاوي أن «النية انبعاث القلب نحو ما يراه موافقاً مع جلب نفع أو دفع ضرر حالاً أو مآلاً، ولذلك لو اختلف اللسان والقلب فالعبرة بما في القلب».والحسن، عند الأصوليين، هو ما لاءم الطبع أو وافقه، والقبيح ما خالف الطبع أو نافره، أو كما يقول بعضهم: الحسن مارتب على فعله المدح، والقبيح ما ترتب على فعله الذم».
يستخلص مما تقدم أن حسن النية تشكل الدفة التي تقود وتوجه الفضائل الأخلاقية الأخرى، لأنها تكشف عن النية الصادقة للشخص في قوله وعمله، أي هي الميزان الذي يحدد سلوك الفرد في الخير أو الشر؛ فإذا كانت نية الشخص حسنة تجلت من خلالها الفضائل، وإذا كانت سيئة تجلت قوى الشر؛ من كذب وخداع وعدوان وغصب حقوق الغير. وإذا كان حسن النية والقواعد الأخلاقية الأخرى جوهرية لقيادة سلوك الإنسان نحو الخير، واحترام كل ما هو حق، فهل يتوافق ذلك مع القاعدة القانونية التي تنظم السلوك بدورها؟
لا شك الجواب نعم، لأن القاعدة الأخلاقية تعد الركيزة الأساسية للقاعدة القانونية، وكما قال الفقيه (Ripert) بحق، أن تجرد القاعدة القانونية عن الأخلاق تنقلب إلى قاعدة مجردة جوفاء لا تحمي نظاماً ولا تحل نزاعاً، وتقود إلى اضطراب المجتمع وتقويض استقراره؛ فاحترام النصوص لا يأتي من الخضوع والجزاء وإنما يتولد من ضمير المخاطب بالقاعدة القانونية، وقناعته بها ورضاه. وإذا اعترفنا بالقاعدة الأخلاقية في القانون؛ فإن حسن النية تنقلب حتماً إلى التزام قانوني إلى جانب أنها التزام خلقي. وقد اعترفت بها التشريعات فعلاً باعتبارها التزاماً قانونياً؛ فكل شخص ملزم بحسن سلوكه في حدود القانون. ولكن ما هو مفهوم حسن النية في القانون؟ لم تتوصل التشريعات المدنية إلى تعريف محدد لحسن النية، ويرد ذلك إلى أن الصياغة الفنية للنصوص تقلب مفهوم حسن النية من مفهوم موحد، باعتباره التزاماً خلقياً، إلى مفاهيم مختلفة باعتباره التزاماً قانونياً. لهذا تناولته التشريعات المدنية بمفاهيم مختلفة، وفق الغرض الذي وجد من أجله؛ فهناك تشريعات جعلت منه مبدأًعاماً يحكم كافة نصوص المعاملات المدنية، ولكنها تجنبت وضع تعريف له يتوافق مع وظيفته العامة، فقد نصت المادة (2/2) من القانون المدني السويسري على أنه: «يلتزم كل شخص بممارسة حقوقه وتنفيذ التزاماته وفقاً لقواعد حسن النية». ونصت المادة (2) من اتفاقية فيينا للبيوع الدولية على أنه: «1 – يراعى في تفسير هذه الاتفاقية صفتها الدولية وضرورة تحقيق التوحيد في تطبيقها، كما يراعى ضمان احترام حسن النية في التجارة الدولية. 2 – وإن مبدأ احترام حسن النية لا يقتصر على تفسير نصوص الاتفاقية ولكنه يعتبر ضابطاً للسلوك يجب على طرفي العقد مراعاته في مرحلة تنفيذ العقد». ونصت المادة (242) من القانون المدني الألماني على أن: «يلتزم المدين بتنفيذ التزامه بما يتوافق وحسن النية مع الأخذ بنظر الاعتبار طبيعة التعامل»، وقضت المادة (1337) من ذات القانون أنه: «يجب أن يتصرف أطراف العقد عند التفاوض وانعقاد العقد بطريقة تطابق حسن النية». وكان القانون المدني لولاية (Québec) في كندا أكثر توسعاً في رسم المبدأ العام لحسن النية؛ إذ نصت المادة (6) على أن: «كل شخص ملزم التعامل بحسن نية عند ممارسة حقوقه المدنية»، وأكدت المادة (7) بأنه: «لا يمارس أي حق يلحق ضرراً بالغير بأي وجه كان يتعارض مع حسن النية».
لم يتبن القانون المدني الفرنسي، قبل التعديل الأخير، سياسة وضع مبدأ عام لحسن النية، واقتصر في النص عليه صراحة في تنفيذ الالتزام وفي الحيازة؛ إذ نصت المادة (1134/ 3) بأنه: «يجب تنفيذ الاتفاقات بحسن نية»، واشترطت المادة (550) حسن نية الحائز عند وضع يده علىالشيء بقصد تملكه. وتبنت التشريعات العربية سياسة القانون المدني الفرنسي فاقتصرت على ذكرها في تنفيذ العقد وفي الحيازة، مع الإشارة إليها هامشياً في نصوص متفرقة؛ فقد نصت المادة (148/ 1) من القانون المدني المصري على أنه: «يجب تنفيذ العقد طبقاً لما اشتمل عليه وبطريقة تتفق مع ما يوجبه حسن النية»،، كما وردت نصوص عدة لحسن النية في الحيازة؛ إذ نصت المادة (965/ 1) على أنه: «يعد حسن النية من يحوز الحق وهو يجهل أنه يعتدي على حق الغير …». ولم يختلف قانون المعاملات المدنية الإماراتي عن سياسة القانون المدني المصري؛ فقد اعتمدها شبه حرفياً؛ إذ نصت المادة (246/ 1) على أنه: «يجب تنفيذ العقد طبقاً لما اشتمل عليه وبطريقة تتفق مع ما يوجبه حسن النية»، ونصت المادة (1312) على أنه: «يعد حسن النية من يحوز الشيء وهو يجهل أنه يعتدي على حق الغير ويفترض حسن النية ما لم يقم الدليل على غيره».
وإذا وليّْنا وجهنا شطر الفقه نجده لايختلف عن موقف التشريعات المدنية؛ فذهب مذاهب شتى في تعريف حسن النية؛ فذكر بعضهم أن حسن النية لايتعدى تعريفها سوى القول الالتزام بحدود القانون، أو أنها التزام يحكم القانون المدني جميعاً، أو هي لا تعني سوى «الاعتقاد الخاطئ بوجود وضع قانوني معين، ذلك الاعتقاد الذي وجد له مبرر نفسي وأخلاقي في آن واحد». ولا ينطبق التعريف الأخير سوى على الوضع الظاهر الذي يعتقد الغير أنه الحقيقة المستوفية لكامل شروطها ومطابقة لحكم القانون. وذهب آخرون بأن حسن النية مجرد عدم العلم بواقعة معينة، ويؤكد الفقيه (Lyon – Caen) أن لحسن النية مفهوماً واحداً هو الاعتقاد الخاطئ، في حين اعتبرها الفقيه (Ripert) مجرد وسيلة لإدخال القاعدة الأخلاقية في ثنايا النصوص القانونية.
لا تقدم التعريفات السابقة مفهوماً محدداً لحسن النية؛ إذ يبقى الجدل قائماً، ما هي حسن النية؟ وما هي وظيفتها بالقانون؟ وهل هي معيار لقياس مدى احترام المخاطب بالقانون، كما يقول أحد الفقهاء، أم هي مجرد وسيلة لتفسير الوقائع القانونية وفق الظروف الخارجية المحيطة بها، كما هو الحال عند تنفيذ العقد؛ إذ يقتصر فيه البحث عن حسن النية لتفسير إرادة الأطراف، والبحث عن الظروف الخارجية المحيطة بالعقد، ومن خلالها تظهر بعض الالتزامات لم يذكرها العقد صراحة، ويعني ذلك أن حسن النية وسيلة قياس سلوك المتعاقدين عند تنفيذ الالتزامات.
ولم تقدم الدراسات السابقة لهذه الدراسة مفهوماً موحداً ولا معياراً ثابتاً لها، وإنما ذهبت مذاهب متباينة في تحديد وظائف حسن النية. ويرد صعوبة تحديد مفهوم محدد وموحد لحسن النية في قانون المعاملات المدنية إلى أسباب عدة؛ أولها أنها تعتمد على النية الحقيقية للشخص، الأمر الذي يصعب رفع الغطاء عنها، وثانياً أنها تختلط مع مفاهيم قانونية عامة أخرى وتتقاطع معها؛ مثل نظرية التعسف باستعمال الحق، ونظرية الأوضاع الظاهرة، والخطأ الجسيم والغش، والنظام العام والآداب العامة، والسبب الباعث والمنفعة المقصودة، والشخص المعتاد، والإضرار غير المشروع، وغيرها من المفاهيم العامة. ويرد السبب الثالث إلى أن ترك القانون للقضاء الحرية الكاملة في تقدير حسن النية والكشف عنها قاد إلى إهدارالمبادئ القانونية المستقرة، مثل سلطان الإرادة والقوة الملزمة للعقد واستقرار التعامل وفكرة الخطأ في المسؤولية وتقدير التعويض. من أجل ذلك كانت محكمة النقض الفرنسية حاسمة في رفض مبدأ حسن النية عندما وجدت أنه يهدد مبدأ القوة الملزمة للعقد؛ فقبلت فسخ العقد لإخلال المتعاقد المشتري بالتزامه الذي يقضي بعرض عطور الشركة البائعة في أماكن محددة في المحل التجاري، فقام بعرضها في واجهة المحل، خارج الأماكن المتفق عليها، ويعد ذلك إخلالاً بالعقد لا يشفع للمشتري حسن نيته باعتقاده أن الاتفاق يشمل العرض في واجهة المحل، لأن إخلاله يتعارض مع حرية الإرادة والقوة الملزمة للعقد. لهذا كان القانون المدني الفرنسي منطقياً في قصر حسن النية على تنفيذ العقد دون انعقاده.
ويترتب على التفسير الضيق لحسن النية تعارضها مع العدالة أو على الأقل تتقاطع معها؛ فإذا قبلنا دفع البائع حسن نيته بعدم علمه بالعيب، يعني إعفاءه من المسؤولية عن العيب، ولا يحق للمشتري المطالبة بالفسخ أو التعويض؛ وإذا ذهبنا إلى القول أن كل حائز حسن النية يكتسب حقاً على العين محل الحيازة، سوف نهدر حقوق الغير، لأن مجرد ادعاء الحائز أنه يجهل أن يعتدي على حق للغير، يعطيه الحق بتملك العين محل الحيازة، وإذا قلنا أن مُحدث الضرر حسن النية أي لم تتجه إرادته إلى الإضرار يعني إعفاءه من المسؤولية، وهذا لم تقبله التشريعات المدنية. صحيح أن قواعد الأخلاق والقواعد الدينية تعفي المخاطب من المسؤولية، إذا كان حسن النية؛ قال تعالى: «وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم»، في حين أن القانون يهدف إلى حماية المصالح كافة من خلال الموازنة بينها وعدم هدر إحداها على حساب الأخرى.
ينبغي فهم حسن النية في إطارها الأصيل، أي الإطار الأخلاقي؛ فمهمة الأخلاق، كما يقول الفيلسوف جون ستيوارت بل، هي أن تقول لنا ما هي واجباتنا لكي نصل إلى السلوك الحسن مع الغير، فالواجبات التي يفرضها مبدأ حسن النية مختلفة ومتباينة في المعاملات المالية، حسب الغاية منها. ولكن ماهي الواجبات التي تفرضها حسن النية في قانون المعاملات المالية؟
يذهب الفقيه (Gorphe) أن وجود حسن النية في القانون تنحصر في ثلاث وظائف؛ إما أن تستخدم كمعيار لتفسير بعض الوقائع القانونية، مثل تفسير مضمون العقد والظروف المحيطة به، أو تستخدم باعتبارها شرطاً في التعامل عموماً وفي بعض العقود تحديدا؛ مثل التزام المؤمن له بتقديم المعلومات، أو أنها تعد شرطاً للحماية؛ مثل حماية الحائزة حسن النية أو الأوضاع الظاهرة أو حماية المستهلك.
نعتقد أن وظائف حسن النية التي ذكرها الفقية(Gorphe) لا تستقيم مع الوظائف الحقيقية التي حددتها التشريعات المدنية لتوظيف حسن النية في القانون؛ فإذا وقفنا على قانون المعاملات المدنية الإماراتي نجده يلجأ إلى استخدامها في مفاهيم مختلفة، قد يراد منها الكشف عن النية الحقيقية للمتعامل، وهذه وظيفة مرتبطة بالعلم أو افتراض العلم (مبحث أول)، أو أن القانون يعتمدها كمعيار لتحديد سلوك الشخص المتعامل، فيما إذا كان حسن النية (مبحث ثان)، وقد يفترض القانون وقائع قانونية قائمة على حسن النية ومرتبطة بالعدالة واستقرار التعامل (مبحث ثالث).