أ.د. بدرية عبد الله العوضي
تزدحم الفضاءات القانونية العربية والعالمية، ممثلة في كليات القانون والمحاكم وجمعيات المحامين والقضاة والمساعدين القانونيين وغيرهم، بكثير من القضايا والموضوعات المثارة، والتي تستحق أن نسلط عليها الضوء في هذا الركن من المجلة، إلا إننا آثرنا أن نخصصه في هذا العدد، الذي يتزامن مع بدايات السنة الجامعية الجديدة، للحديث عن مقتضيات مستحقة لتجديد وتطوير البحث العلمي القانوني، وذلك بالنظر لأهمية هذا القطاع ودوره الاستراتيجي في مسيرة التنمية والنهضة داخل المجتمعات، حيث يساعد في توفير حلول واجتهادات قانونية فعالة للمشاكل التي تعيشها المؤسسات السياسية والدستورية والأجهزة التنفيذية والإدارية في القطاعين العام والخاص، الأمر الذي من شأنه أن يسهم في تحقيق التعاون والاستقرار وتوفير بيئة متكاملة للتطور في المجتمعات البشرية. ومما لاشك فيه أن واقع البحث العلمي القانوني ودوره في المجتمعات الغربية يشكل دليلا ناجحا على ما أشرنا إليه في هذه المقدمة، ويعد محفزا ومثالا يمكن الاستفادة منه بالنسبة لرواد ومسؤولي البحث العلمي القانوني في العالم العربي والدول النامية للسعي لتجديد وتطوير منظومة هذا النوع من البحث لتتبوأ المكانة التي تستحقها وتقوم بالدور المنوط بها.
لقد تم بالفعل تشييد منظومة للبحث العلمي القانوني في مجتمعاتنا الأكاديمية والعملية العربية خلال العقود الماضية، أثمرت بالفعل انتاجات واجتهادات كثيرة، بعضها يعد متميزا، سواء على مستوى تكوين الكفاءات والكوادر والخريجين، أو على مستوى المؤسسات والآليات والتي من معالمها، حركة نشر الكتاب القانوني التي تشهد تزايدا ملحوظا، ونشاط مراكز البحث التي تنظم مؤتمرات وندوات بشكل شبه منتظم، بالإضافة إلى إطلاق دوريات علمية متخصصة، سواء من قبل الكليات والجامعات أو من قبل الهيئات المهنية مثل جمعيات المحامين أو القضاة، أو حتى من قبل الجهات الحكومية مثلما هو الحال بالنسبة لوزارات العدل في عدد من الدول، وكذلك تنظيم ندوات ومؤتمرات وحلقات نقاشية للتداول في الإشكاليات والقضايا المستجدة وغيرها.
إن هذه الآليات والأدوات والمؤسسات شكلت ولا تزال رافدا مهما لحركة البحث العلمي القانوني، لكنها تحتاج بكل موضوعية إلى تجديد وتطوير لا يستثني أي جانب من الجوانب بسبب محدودية الأثر والنتائج خلال الفترة الأخيرة، وذلك في إطار رؤية شاملة لإصلاح قطاع البحث العلمي القانوني، وفي اعتقادنا فإن هذه المقاربة يجب أن تراعي العناصر التالية:
-1 تجديد التأكيد على أهمية قطاع البحث القانوني العلمي، وخاصة في محاضنه الطبيعية الممثلة في الكليات والجامعات ومراكز البحث المتخصصة، وذلك من خلال زيادة ميزانياته ومخصصاته المادية وتفعيل دوره المجتمعي الشامل بشكل قانوني ومؤسساتي، والمقصود بذلك أن تنشأ مؤسسات متخصصة في دعم وتطوير البحث العلمي القانوني.
-2 مراجعة مناهج ومقررات كليات القانون والحقوق العربية، بشكل يدمج التطورات النظرية والعملية، ويركز على التدريب والجوانب التطبيقية، بما يشجع على البحث والتقصي والتفكير النقدي والعملي.
-3 حث وتشجيع أعضاء هيئة التدريس في الكليات والجامعات القانونية والباحثين على الاستمرار في البحث الجدي والفعال، ذو الأثر التطبيقي والفعال، وذي العلاقة بالإشكالات القانونية المستجدة، ويمكن أن يشكل إنشاء جائزة أفضل الباحثين حافزا في هذا الإطار.
-4زيادة تفعيل الندوات والحلقات النقاشية التي تجمع بين الباحثين والممارسين والمشرعين وغيرهم في القضايا المستجدة، ونشرها من أجل توسيع النقاش حولها.
-5 حث الجمعيات المهنية للقضاة والمحامين على تشجيع منتسبيها للاستمرار في البحث والنشر وتوعيتهم بالمستجدات القانونية والمهنية المحلية والعالمية في مجال تخصصاتهم.
-6 تفعيل نشر الأبحاث العلمية القانونية سواء من خلال الدوريات أو الكتب والإصدارات المتخصصة، على أن تراعى في هذه الإصدارات معايير الجودة والتميز، أو من خلال حسن اختيار البرامج والموضوعات البحثية، التي تنبثق من وقائع ومتطلبات المشاكل والتحديات القانونية اليومية التي تشهدها المجتمعات المحلية، بما يكسب هذه البرامح البحثية والدراسات أهمية عملية ويمنحها صفة القيمة المضافة لمجالات البحث العلمي والمراكمة الضرورية والتميز المطلوب.
-7 إقرار وترسيخ التعاون والشراكة والمبادرة باعتبارها قيما أساسية في مجالات تطوير البحث العلمي والقانوني، وهو ما يسمح بإنجاز برامج بحثية نوعية وواسعة.
ورغم شمولية العناصر السابقة في مجال علاقتها بموضوعات تطوير البحث العلمي، إلا أنها ربما تغطي بشكل أكبر الجانب المؤسسي العام، لكن مبادرة الباحثين الفردية تبقى ذات أهمية وتأثير كبير من حيث حسن اختيار الموضوعات الحيوية وذات الصلة بالقضايا والإشكاليات القانونية والمجتمعية المعاصرة، وبحثها باعتماد المناهج التحليلية، النقدية والمقارنة، سواء في إطار فردي أو من خلال فرق عمل متخصصة، تتكامل مع بعضها البعض. ومما لاشك فيه أن ذلك من شأنه تحقيق نتائج عملية ملموسة تتطور مع الاستمرارية والمراجعة والتقييم والتطوير، وتجد صداها في المجتمعات المحلية والعالمية.