أ.د. بدرية عبد الله العوضي
يعد القضاء ركناً مهماً من أركان العدالة وبناء المجتمعات المستقرة، ولأجل ذلك، حرصت الشرائع السماوية والقوانين الوضعية على إيلائه أهمية كبيرة، حيث رفعته الوثائق الدستورية إلى مصاف السلطات مثله في ذلك مثل السلطة التنفيذية أو السلطة التشريعية، كما منحته وضعية مستقلة، ومن الأدوات ما يكفل له تحقيق المهام التي أوكلت إليه. وقد ترسخ وضع القضاء وتزايدت أهميته بعد أن أصبح احترامه وتعزيز دوره الفعال توجهاً عالمياً، وأحد المعايير الرئيسية في بيان تقدم الدول ونهضتها، باعتباره منفذاً للقوانين ومحققاً للعدالة في النزاعات المختلفة التي تعرض عليه، وحامياً للحقوق والحريات، وطرفاً محايداً في الفصل بالنزاعات التي تحدث أحياناً بين السلطتين التشريعية والتنفيذية. وقد أخذت الدول العربية بهذا النهج على مستوى الوثائق والنصوص الدستورية والقانونية، لكن دور ومسارات وفعالية السلطة القضائية فيها تباينت واختلفت بحسب ظروف كل واحدة منها، وهي تواجه تحديات متقاربة نحو تطوير أداء السلطة القضائية باتجاه إيجابي وفعَّال من شأنه أن ينعكس على غيره من القطاعات والمجالات الاجتماعية، ومن شأنه أن يساهم بتطوير القوانين وتعزيزها عبر اجتهادات قضائية مبتكرة ومؤصلة، تدعمها في ذلك حركة دؤوبة ومتميزة لرجالات الفقه القانوني في المجالات المختلفة، بالإضافة إلى تشريعات قانونية تراعي متطلبات العمل الحكومي والإداري وغيره.
إن الوقائع الدولية المقارنة المتتالية تسلط الأضواء على الأدوار الايجابية والفاعلة التي تقوم بها السلطة القضائية في مجال تطوير تعزيز استقرار النظام القانوني وسيادته وتطويره، فابتداء من اجتهادات القضاء الفرنسي في مجال العقود والالتزامات والإدارة، التي تمت عبر سنوات وعقود وسدت نقصاً حاداً في مجالات حيوية في مجال العقود والأعمال والتجارة الدولية والحريات، والتي استوعبها المشرع الفرنسي في مئات المواد القانونية التي أدرجت في الإصلاح التشريعي الأوسع في تاريخ الجمهورية المنشور بالجريدة الرسمية في فبراير من العام الماضي، ومروراً بقرارات المحكمة الدستورية في كوريا الجنوبية التي قضت بعزل رئيسة البلاد من منصبها بعد إدانتها من قبل البرلمان في قضية فساد وتصويته على عزلها، ونصت في حكمها التاريخي، الذي تقرر بموجبه لأول مرة عزل رئيس منتخب، على أن “أفعال الرئيسة بارك أفسدت روح الديمقراطية وروح القانون في البلاد”، وعلى أنها “خرقت القانون بسماحها لتشوي سون سيل (صديقتها) بالتدخل في شؤون البلاد، كما أنها خرقت قواعد السرية بتسريب وثائق رئاسية مهمة”، وقد أنهى هذا الحكم القضائي الأزمة السياسية في البلاد، وانتظمت بعدها انتخابات رئاسية جديدة، وأحيلت خلالها الرئيسة المعزولة إلى القضاء ليفصل في قضية الفساد الملاحقة بها.
ومن هذه الوقائع الدولية المؤثرة أيضاً والتي تعكس الدور الحاسم للقضاء، ما قررته المحكمة العليا في بريطانيا بحكمها الصادر بتاريخ 4 نوفمبر 2016 من أن الحكومة ملزمة بضرورة الحصول على موافقة مجلس العموم قبل الشروع في أي مفاوضات مع الاتحاد الأوروبي بشأن الخروج منه، حيث أشارت إلى أن عدم القيام بذلك سيشكل انتهاكاً للمبادئ الدستورية، ورفضت حجة الحكومة بأنه يمكن لها استخدام سلطات تنفيذية تُعرف باسم “الامتياز الملكي”، لاستخدام المادة خمسين من معاهدة لشبونة للاتحاد الأوروبي وبدء محادثات للانسحاب من الاتحاد. وبموجب هذا الحكم، فقد تعين على الحكومة عرض تفاصيل سحب العضوية على البرلمان للتصويت عليها قبل بدء عملية التفاوض مع الاتحاد الأوروبي، وهو ما قامت به لاحقا تنفيذا لحكم المحكمة.
إن الوقائع المقارنة السابقة، تقدم دليلاً على الدور الايجابي الفعال الذي يمكن للقضاء القيام، سواء في تطوير القوانين وإيجاد الحلول عبر الاجتهادات القضائية، أو في حل الأزمات والحفاظ على علوية المبادئ الدستورية واحترام الحقوق والحريات، ولا يمكن لاختلاف البيئات والظروف العامة أن تحول دون النظر في تطوير دور وفعالية أداء السلطة القضائية في البلاد العربية المختلفة. إن هناك متطلبات أساسية تحتاج للمراجعة والنظر في وضعية السلطة القضائية في بعض الدول، إذ لابد من الإسراع في استكمال توطين وظائف رجال السلطة القضائية، والعمل على تعزيز تكوينهم من النواحي النظرية والعملية، بما يؤهلهم لحسن تطبيق القانون والاجتهاد بما يكفل سيادة القانون وتحقيق العدالة، كما أنه من المهم تعزيز ضمانات استقلال القضاء سواء من الناحية الموضوعية أو التنظيمية، وتقع مسؤولية ذلك كما هو معروف على السلطتين التنفيذية والتشريعية.
ولا يفوتنا بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك أن نتقدم لقرائنا الأكارم وزملائنا الباحثين وأعضاء هيئة التدريس بأحر وأطيب التهاني بالشهر الفضيل، داعين الله العلي القدير أن يتقبل طاعاتهم ويبارك أعمالهم ويوفقهم لما فيه الخير والسداد والصلاح، وأن يحفظ للأمة الإسلامية دينها وعزتها ووحدتها ويرد كيد أعدائها، إنه على كل شيء قدير.