أ.د. بدرية عبد الله العوضي
على الرغم من أن المؤتمر السنوي الثالث لكلية الحقوق الذي انعقد في 01-11 مايو الماضي، لم يكن الأول الذي خصص جلساته للحوكمة والتنظيم القانوني لأسواق المال، لا في الكويت ولا في العالم العربي، كما أنه بكل تأكيد لن يكون الأخير، إلا أن القضايا التي تطرَّق لها والإشكاليات التي ناقشها أكثر من 63 باحثاً كويتياً وعربياً وأجنبياً، بالإضافة إلى الوقائع والتطورات المستجدة على مستوى الممارسة، تؤكد أهمية وجدوى اختيار هذا الموضوع محوراً للمؤتمر السنوي للكلية، كما طرحت مزيداً من الأسئلة والقضايا ذات الصلة والتي لا تزال عالقة، ومن بينها على سبيل المثال وليس الحصر:
لماذا يصطدم تنفيذ منظومة الحوكمة على أرض الواقع وخاصة في أسواق المال في الكويت والدول العربية بعدد كبير من العقبات، مما يحدُّ من تأثيرها الإيجابي المرتقب؟ هل تحتاج سلطات الرقابة على تنفيذ الحوكمة ذاتها إلى آلية للالتزام بالحوكمة وبتقييم وتفعيل ذلك الالتزام؟ هل تشكل الحوكمة عبئاً على الشركات الصغيرة والمتوسطة التي تتعامل في مجال أسواق المال؟ وكيف يمكن تفسير انسحاب عشرات الشركات من السوق بعد البدء بتفعيل قواعد ومعايير الحوكمة في الشركات؟ هل هناك خلل في الضمانات، أم هناك عدم توازن، أم أن تقاليد الشركات العاملة والسوق بما شملته من خلل وتجاوزات سابقة عصية على الضبط والتنظيم وتحتاج لوقت وجهد من أجل معالجتها؟ هل يكفي تدخل هيئات أسواق المال عبر القرارات التنظيمية والعقوبات التأديبية لتفادي الثغرات التشريعية التي كشفت بدايات التطبيق أم أنه يجب على المشرع أن يتدخل؟
إن هذه الأسئلة وغيرها ستظل مثارة وتحتاج لاجتهاد الباحثين والفقهاء، ومجلتنا تفتح صفحاتها دائما للكتابات القانونية العلمية في هذا المجال، من أجل إثراء النقاش والمساعدة في تقديم الحلول القانونية الموضوعية للمشرعين والجهات التنفيذية والقانونية.
من جهة أخرى، وفي الوقت الذي خصصت فيه الحكومات والجهات الرقابية، كما هو الحال في الكويت، اعتمادات مالية وأنشأت أجهزة ومؤسسات إدارية، سواء في إطار وزارة التجارة أم في إطار هيئة أسواق المال، فإن بعض القائمين على الشركات ينتقدون قرارات الإلزام بإجراءات ومعايير الحوكمة، مشيرين خاصة إلى التكلفة المالية، وهو أمر مستغرب لأن هذه المنظومة صُممت بالأساس لضمان الشفافية والنزاهة في تسيير الشركات بما يكفل تطوير أدائها وتعزيز أرباحها، كما أنها مسألة تعيد مجدداً التأكيد على أن المعايير الأخلاقية والعرفية وحدها لم تعد كافية لضمان انسيابية وشفافية ونزاهة الحلقات والمؤسسات المختلفة للدورة الاستثمارية والاقتصادية، ودرء الفساد والفشل في إدارة المشروعات المختلفة، بل لابد من تفعيل المعايير الموضوعية القانونية بالطرق التشاركية والتفاعلية وكذلك الرقابية والجزائية، وهو أمر بدأ يترسَّخ يوماً بعد يوم، ويستحق مضاعفة وترشيد الاستثمارات المالية والبشرية التي تبذل فيه، بما في ذلك الحلول والاجتهادات القانونية والتشريعية المطلوبة والمستحقة.
كما أنه من المهم التأكيد في هذا الإطار على أن نشر وتطبيق مفاهيم الحوكمة، والسعي لتحقيق أهدافها في مختلف المجالات والقطاعات، كما تشير إلى ذلك الورقة البحثية التي قدمها الأستاذ الدكتور محمد المقاطع في المؤتمر والمنشورة ضمن العدد، من شأنها خلق بيئة عامة إيجابية تساعد على تحقيق أهداف الحوكمة المتمثلة في تعزيز الشفافية والنزاهة وتطوير الأداء والإنتاج داخل المؤسسات والشركات بما ينعكس إيجاباً على الاقتصادات والمجتمعات الوطنية، وذلك من خلال أدوات وآليات دقيقة ومحدَّدة لحسن سير العمل وللرقابة والتقييم والإصلاح، وهي قيم لا تعني أبدا وضع قيود على أصحاب الشركات والمبادرات الخاصة والمديرين التنفيذيين في مساعيهم لتعظيم أرباحهم وعوائدهم، بل إنها توفر ضمانات لهم وللمساهمين خاصة وللجهات المنظمة والمجتمع عامة، وهي معادلة قانونية وتنظيمية ايجابية ومؤثرة متى أُحسن تطبيقها وتنزيلها على أرض الواقع، أثارت ولا تزال تثير إشكالات تشريعية وفقهية في الوسط المالي والقانوني تحتاج بلا شك لاجتهادات واقتراحات الباحثين.
إن الحوكمة ليست فقط إجراء أو تدبيراً أو آلية لمراقبة إدارة الشركات أو المؤسسات، بل إنها منظومة عمل وتطوير وتقييم ورقابة، وهي تكاد تكون بمثابة الشجرة الوارفة الظلال التي تستمد بريقها ونموها من القيم الأخلاقية والقواعد القانونية واللوائح الإجرائية والتنظيمية ومن الإرادات الحرة والمبدعة للمديرين والمبادرين والمنظمين، وكذلك من البيئة التنظيمية والاقتصادية والمالية المنفتحة والتي تسعى لتحقيق التوازن الصعب بين فتح المجال الواسع للمبادرة الخاصة وللقطاع الخاص وبين حماية مصالح المجتمع.