على حين غرة تفاجأ العالم أجمع بانتشار فيروس كورونا المميت الذي لم تتضح معالمه بعد ولا سبل التصدي له، اللهم إلا من بعض الإجراءات الوقائية المحدودة، وتحول الأمر في ظرف أسابيع قليلة إلى أزمة صحية عالمية، فاقم من حدتها حالة الغموض وانعدام الشفافية واستهتار بعض الجهات الإدارية والحكومية في أنحاء مختلفة من العالم. فبعد حالة من الصمت والارتباك، أعلنت منظمة الصحة العالمية في نهاية شهر يناير 2020 عن تفشي الفيروس التاجي – كوفيد 19، مصنفة إياه باعتباره «حالة طوارئ صحية عامة تثير قلقاً دولياً»، ثم عادت لتعلنه في 11 مارس 2020 جائحة عالمية، داعية دول العالم للاتحاد والتعاون في مواجهته والحد من انتشاره، دون أن تقدم توصيفاً علمياً مقنعاً للفيروس وتعرض إطاراً لإنتاج لقاحات وأدوية، باعتبارها الجهة العالمية المسؤولة عن ذلك، والتي تمولها دول العالم من أجل حفظ الصحة وتطوير القطاعات الصحية وتقديم المساعدة الصحية للمجتمعات والدول التي تحتاج إلى ذلك.
وفور ذلك بادرت غالبية دول العالم إلى اتخاذ إجراءات وتدابير مشددة تضمنت إغلاق الحدود ووقف الرحلات الجوية وتعطيل الجامعات والمدارس والأجهزة والمرافق الإدارية والحكومية وغيرها، وذلك في مسعى للحد من انتشار الفيروس والتخفيف من العبء على القطاع الصحي المحلي.
لقد كشفت الأسابيع الأولى من هذه الجائحة عن رصيد من القيم الإنسانية في مجتمعات عديدة، حيث تداعت قوى مختلفة للتضامن والتكافل والتطوع والعطاء، كما كشفت عن وجود بنية تحتية صحية واجتماعية وقانونية وإدارية لتنظيم الاستجابة لتحديات الجائحة، لكن طول واستمرار انتشار الجائحة أظهرا أعراضاً خطيرة وتشوهات ومشكلات قانونية كثيرة، تحتاج للتدخل والمعالجة.
فمن الجانب القانوني، وفرت التشريعات التي تنظم سبل مواجهة الأوبئة والكوارث والأمراض، كما هو الحال بالنسبة للقانون الكويتي رقم 8 لسنة 1969 بشأن الاحتياطات الصحية للوقاية من الأمراض السارية وقوانين وإجراءات الضبط الإداري، إمكانيات الانتقال السلس والسريع للأجهزة الحكومية والإدارية من العمل العادي إلى العمل الاستثنائي الطارئ في مواجهة جائحة كورونا. كما أسهم التدخل التشريعي لمجلس الأمة في سد النقص المتعلق بتنظيم ومد آجال التقاضي في حالات الطوارئ، وكذلك فيما يتعلق بتشديد العقوبات بالنسبة لمن ينشرون الأوبئة والأمراض السارية عمداً، وأولئك الذين ينتهكون قواعد وأحكام قوانين وإجراءات الطوارئ الصحية.
في الوقت نفسه، أظهرت يوميات الجائحة في عدد كبير من الدول والمجتمعات، فراغاً ونقصاً تشريعياً في أنظمة عمل المؤسسات والجهات الحكومية والخاصة خلال حالات الطوارئ، كما أبرزت الحاجة مجدداً لجهد تشريعي وإداري فعَّال لإنشاء هيئة لمواجهة الكوارث الطارئة، تشمل مهمتها الإعداد والتخطيط وتعبئة الموارد، والتي ظهرت فعايتها وكفاءتها في دول عدة، لأنها شكلت إطاراً منظماً للاستجابة لحالات الطوارئ.
ولا تقتصر الاحتياجات القانونية على ما سبق، لكنها تشمل تعزيز ضمانات الحق في الصحة، من خلال تطوير وزيادة الموارد البشرية والمادية لقطاع الصحة وإقرار التشريعات اللازمة لذلك، كما تشمل تعزيز الحق في الحصول على المعلومات المتعلقة بالوباء والسياسات والخطط والإجراءات الحكومية لمواجهته وانتشاره بشفافية كاملة.
كما تشمل هذه المتطلبات القانونية كذلك ضمان حرية الرأي والتعبير بالنسبة للمواطنين، وتعزيز حق الجهات الرقابية ممثلة في البرلمانات والمجالس النيابية في استمرار أعمالها بالتشريع والرقابة خلال فترة الجائحة، وعدم تعطيل أعمالها لأي سبب من الأسباب استناداً إلى النصوص الدستورية التي تكفل استمراريتها حتى في حالة الطوارئ، خاصة وأن السلطة التنفيذية بمختلف أجهزتها استمرت في العمل. ومما لاشك فيه أن هذه المتطلبات تشمل أيضاً حقوقاً دستورية أخرى مثل الحق في التقاضي والحق في العودة إلى البلاد وغيرها، التي يجب كفالة استمراريتها تحت كل الظروف.
لقد تعرضت أغلب هذه الحقوق الدستورية والقانونية لتحديات جدية خلال الجائحة، واختلفت الاستجابة لها في دول ومجتمعات مختلفة، حيث حرصت الدول الديمقراطية والقانونية على إعلاء شأن القانون والحقوق دائماً بما في ذلك كفالة وتعزيز الحق في الصحة والسلامة، فيما اختلف الأمر بالنسبة للدول الأخرى.
إن قيمة وجودة وفعالية النصوص والأنظمة الدستورية والتشريعية والتنظيمية، وكذلك السياسات والخطط والإجراءات الإدارية لا تظهر إلا عند تطبيقها وتنزيلها على أرض الواقع، وخاصة في حالات الكوارث والطوارئ، مثلما هو الحال بالنسبة لجائحة كورونا، وهو ما يشكل فرصة للمراجعة والتقييم وتفادي أوجه النقص والخلل.
وهذا الأمر بدوره يلقي مسؤولية على عاتقنا كعاملين وباحثين في المجال الأكاديمي القانوني للإسهام في التقييم والإصلاح بالنسبة لمختلف المجالات، حيث ترحب «مجلة كلية القانون الكويتية العالمية» بالأبحاث والدراسات التي تتناول آثار هذه الجائحة.