أ.د. بدرية عبد الله العوضي
يعيش النظام القانوني في المجتمعات العربية خاصة ومجتمعات العالم الثالث عامة، حالة مخاض عسيرة غير مسبوقة، تتميز بتراجع احترام القوانين وضعف مكانتها في صفوف فئات وقطاعات مختلفة، بعضها مؤثر وفاعل في الاقتصاد والأمن والاجتماع، كما تتميز بانتشار شريعة الغاب والفوضى في حواضر كثيرة، حيث حلت لغة الرصاص والإقصاء بديلا عن حالة الحوار والتعايش والنظام. ورغم أن المجتمعات البشرية قد عاشت في تاريخها القريب حالات مماثلة، كما كان الحال عليه في الحربين العالميتين وفي حرب البوسنة والهرسك وفلسطين والعراق وغيرها، تستوجب تفادي الانزلاق مرة أخرى إلى مثل هذه الأوضاع والاعتصام بدلا من ذلك بالأنظمة والقوانين والتطوير والإصلاح، إلا أننا نشهد موجة أخرى من تراجع سيادة القانون وانتشار الفوضى والفساد والاستبداد وضيق مساحات الحرية والديمقراطية التي تم اكتسابها خلال المراحل السابقة، وهو ما تؤكده التقارير المحلية والدولية في مجال أداء المؤسسات واحترام القوانين والحقوق والحريات.
ولعل الأخطر في هذه المرحلة، هو تراجع الإيمان بأهمية تلك القوانين والأنظمة إطارا لتنظيم التعايش والتعاون بين مختلف فئات المجتمعات المحلية والإقليمية، وخاصة لدى قطاع من القائمين على صياغة وتطبيق وتفسير القوانين، ولا نعني بذلك الأفراد فقط بل نعني المؤسسات الدستورية والقانونية والقضائية، حيث تكشفت في دول كثيرة قضايا فساد كبيرة على صلة بتلك المؤسسات، كما نخرت الواسطة والمحسوبية القواعد الصلبة لتكوين تلك المؤسسات، وهو ما انعكس سلبا في مجالات القيم والأداء وغيرها. لقد أصبح جانب من العاملين في المجالات القانونية على استعداد للتضحية بضرورة احترام القانون والأنظمة، وفي مقدمتها قيم الحرية والعدالة والتعايش، وذلك في مقابل تحقيق مصالح فئوية ضيقة غير مكترثين بأمن واستقرار مجتمعاتهم وتطلعات أجيالها الجديدة.
وقد انعكست هذه الأوضاع على تراجع الاجتهاد القانوني والقضائي والفكري، حيث سادت التفسيرات الجامدة للنصوص وغابت المرونة التي تقتضيها التطورات المستجدة في قطاعات كثيرة، كما أصبحت التشريعات الجديدة معيبة ولا تحقق الغرض منها وسرعان ما تظهر الحاجة لتعديلها بعد وقت قصير من صدورها ونشرها، وهو الأمر الذي يكشف غياب الرؤية الفعالة والجدية لواضعيها وضعف المهارات القانونية، وتأثر المشرعين بما يجري حولهم من صراع على المصالح، دون اكتراث بالمصلحة الوطنية والاجتماعية العليا، التي تقتضي نكران الذات وخدمة المجتمع من موقع التشريع والمراقبة والمحاسبة للسلطة التنفيذية. كما غابت عن المؤسسات القضائية في العالم العربي خاصة والعالم الثالث عامة الاجتهادات النوعية التي تحمي الحقوق والحريات، علاوة على تلك المتطلبة في الفصل في النزاعات المدنية والاجتماعية وغيرها، خاصة في ضوء التحديات والتطورات الجديدة، التي فرضتها أنماط الحياة الجديدة والمتسارعة.
وفي البحث عن الأسباب العميقة لأزمة الفكر القانوني العربي مع بدايات القرن الواحد والعشرين، لا يتردد كثيرون في توجيه أصابع الاتهام إلى أنظمة التعليم ومؤسساته ومناهجه ومخرجاته، وهم على حق في جانب من الأمر، حيث تتحمل مؤسسات التعليم التي لا زالت تعتمد على المناهج التقليدية التلقينية وتستبعد المناهج الحديثة ولا تسعى للتجديد والابتكار، وتشجيع الطلاب والباحثين على الاجتهاد والتفكير النقدي، تتحمل عن حق جانبا من المسؤولية..لكن الأمر برمته ربما يكون أعمق وأوسع ويحتاج إلى بحث وتمحيص خاصة من النخب القانونية العربية.
ومما لاشك فيه أن المؤتمر السنوي الرابع لكلية القانون الذي خصص موضوعه هذا العام حول الدور الإصلاحي والتطويري للقانون قد أثار قضايا غير بعيدة عن هذا المجال، لأنه حفز وأثار الباحثين المجتهدين والمهتمين في مختلف مجالات القانون على البحث في جوانب الإصلاح والتطوير القانوني والتشريعي التي تحتاجها المجتمعات العربية، كما أن القائمين عليه رموا حجرا في مياه تكاد تركد من كثرة ما علق بها من الأحجار والأتربة المتراكمة..ذلك هو حال الفكر القانوني العربي..الذي يحتاج إلى تجديد وإلى دماء جديدة وإلى فكر نقدي وإلى بيئة سليمة وإلى فقهاء وباحثين شجعان يخوضون غمار مسيرة تطويره.