أ.د. بدرية عبد الله العوضي
تؤكد الأحداث والتطورات التي تشهدها مناطق مختلفة من العالم، والتي تتخذ شكل نزاعات عرقية أو تجارية أو سياسية أو غيرها، تراجع مكانة الإنسان وحقوقه والقيم والمبادئ الإنسانية في السياسات والعلاقات المحلية والإقليمية والدولية، بعد أن سادت وتعززت لفترة من الزمن إثر الحرب العالمية الثانية، مع تأسيس منظمة الأمم المتحدة لحفظ الأمن والسلم الدوليين (1945) ومنظماتها المتخصصة، وإطلاق الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948) والعهدين الأمميين للحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (1966) وغيرها من الخطوات والإجراءات الكثيرة، والتي تزامنت مع حركة استقلال أغلبية الدول العربية والإسلامية في تلك الفترة عن الدول الاستعمارية وإعلانها دساتير وسنِّها قوانين تُعلي من شأن الإنسان وحقوقه وتحث على التضامن والتكافل، باستثناء فلسطين التي لاتزال ترزح تحت نير الاحتلال الإسرائيلي، والذي ارتكب ولايزال مجازر وجرائم شملت الصغار والكبار والشيوخ والنساء، وشملت انتهاك حرمة الأماكن الدينية المقدسة (من مساجد وكنائس) ومصادرة الأراضي وهدم البيوت والتهجير القسري وغيرها.
لكن نهايات القرن العشرين وبدايات القرن الواحد والعشرين شهدت تراجعات حادة مست مكانة الإنسان وحقوقه خاصة والقيم والمبادئ الإنسانية عامة، حيث عرفت أوروبا أكبر الجرائم ضد الإنسانية في العصر الحديث مُمثلة في جرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي في البوسنة والهرسك (1992-1995) والتي راح ضحيتها أكثر من ثلاثمائة ألف شخص، وشهدت أوجها مع مجزرة سيرينتسا، التي وقعت تحت أنظار القوات الهولندية التابعة للأمم المتحدة والتي لم تحرك ساكناً. كما شهدت آسيا واقعة مأساوية مشابهة تمثلت في حرب الإبادة والتطهير العرقي اللتين مارستهما السلطات ضد أقلية الروهينغيا في ميانمار (2019)، والتي تضمنت جرائم يندى لها الجبين مثل بقر بطون الحوامل الروهينغيات واغتصابهن وقتلهن وحرق أفراد هذه الأقلية وهم أحياء، وطردهم من قراهم ومنازلهم ليواجهوا الجوع والموت والأمراض في رحلة اللجوء إلى دولة بنغلاديش المجاورة. ورغم بشاعة هذه الجرائم الأخيرة، فإن المجتمع الدولي لم يُحرك ساكناً واكتفى كما هي العادة بالشجب والإدانة ولم يتخذ خطوات حقيقية تفرض المحاسبة وعودة اللاجئين.
من جانب آخر، فقد اتخذ تجاهل مكانة الإنسان وحقوقه أشكالاً أخرى مع التطورات المعاصرة، حيث كان عشرات الآلاف بل ومئات الآلاف في بعض الأحيان، والملايين أحيانا أخرى، ضحايا الحروب التجارية والاقتصادية والتكنولوجية التي تدور رحاها بين الدول الكبرى ممثلة في الولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبي وغيرها، وذلك مع تزايد انتشار الفقر وتراجع الاهتمام بالصحة والتعليم وغيرهما، وكذلك مع تزايد انتهاكات حقوق الخصوصية وانخراط حكومات وجماعات في أعمال التضليل والتزييف ونشر الأخبار الكاذبة في ظل التطورات التكنولوجية المتسارعة. وبالإضافة إلى ذلك تُقدم الانتهاكات التي يتعرض لها اللاجئون والأقليات المسلمة في الصين وفي عدد من الدول الأوروبية وفي الولايات المتحدة الأمريكية دليلاً على التراجع الكبير الذي تشهده مكانة الإنسان وحقوقه خاصة والقيم الإنسانية عامة.
إن ما يدعو للانتباه في هذه التطورات السلبية بالنسبة لكرامة الإنسان وحقوقه هو أن تراكمها أوجد حالة من التطبيع والقبول بها وتبريرها أحياناً من قبل البعض، وهو أمر خطير يجب مواجهته، لأنه يهدد سلامة ونهضة المجتمعات المحلية والإقليمية والدولية على حد سواء، وتقع مسؤولية ذلك ليس فقط على الحكومات والدول، بل كذلك على المفكرين والباحثين في مجالات القوانين والتشريعات وحقوق الإنسان. ولذلك فإنه من الطبيعي أن تُشكِّل المؤتمرات والندوات والصحف والمجلات ووسائل الإعلام منابر ووسائل للتأثير في الرأي العام بغرض حث الأطراف ذات الصلة على إعادة الاعتبار لكرامة الإنسان وحقوقه خاصة ولقيم التضامن والتكافل الإنسانيين عامة.