مرة أخرى تقع القوانين والإعلانات والأعراف الدولية وآليات فض المنازعات بالطرق السلمية تحت اختبار قاس، بعد تزايد وتيرة النزاعات والحروب الضارية والمدمرة في أكثر من مكان من المعمورة. وقد ارتفعت مجددًا الأصوات المشككة في جدوى هذه القوانين، بل في وجودها أصلًا، معتبرة إياها مجرد قواعد وضعها ويضعها المنتصرون والمستفيدون منها، دون أن تجد لها الإلزام الكافي، خاصة إذا ما تعلقت بمصالح القوى الكبرى أو بقوى إقليمية مرتبطة بها.
وإذا كان هذا النقاش القانوني قد ساد لفترة ليست بالقصيرة فيما يتعلق بطبيعة قواعد القانون الدولي وبمدى إلزاميتها وبآثارها، مستفيدًا من استمرار الحروب والنزاعات بعد الحرب العالمية الثانية واندلاع الحرب الباردة بين القوى الكبرى، فإن القانون الدولي ومؤسساته ونصوصه وفقهه قد عرف طفرة كبيرة في التأسيس والإنشاء والتطوير خلال النصف الثاني من القرن العشرين ذاته، وقد استطاعت آلياته إخماد نيران كثير من النزاعات والحروب، وتوفير الملاذات الآمنة للاجئين والفارين من أتون الحروب في آسيا وأفريقيا وفي أمريكا الجنوبية، بل في أوروبا ذاتها وغيرها.
الاختبار الجديد هذه المرة يتمثل فيما يجري في القارة الأوروبية ذاتها مرة أخرى … لقد مضى نحو ستة أشهر على تطور الأزمة الروسية الأوكرانية إلى حرب صريحة ومفتوحة، وضعت العالم برمته على شفا حرب عالمية ثالثة بين القوى الكبرى، وكشفت عن حجم كبير من الفظائع التي رافقتها، والتي لا تزال مستمرة. لقد صعَّدت دولة روسيا تهديداتها وغزت الأراضي الأوكرانية في 24 فبراير 2022، بعد أن سيطرت في عام 2014 على شبه جزيرة القرم الأوكرانية إثر اندلاع موجة مظاهرات أطاحت الحكومة الأوكرانية القائمة آنذاك، والتي كانت مُقرَّبة من روسيا، وقادت تلك المظاهرات إلى تغيير الأوضاع بشكل كلي، وقيام حالة عداء بين البلدين، رافقته تدخلات دولية سياسية من أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، إلى جانب تدخلات عسكرية من حلف شمال الأطلسي (ناتو).
لقد شهدت هذه الحرب استخدام الأسلحة الأشد فتكًا والأحدث، التي أنتجتها مصانع الأسلحة في الشرق والغرب على حد سواء. وأدت، خلال الأشهر الماضية، إلى مقتل وإصابة عشرات الآلاف من المدنيين ومن الجنود الأوكرانيين والروس، كما أدت إلى تهجير ملايين الأوكرانيين إلى الدول المجاورة، وكذلك إلى نزوح الملايين الأخرى منهم إلى مناطق أقل تأثرًا بالحرب داخل أوكرانيا. كما شمل القصف وأعمال الحرب أغلب المدن الأوكرانية من خلال القصف الجوي وإطلاق الصواريخ المجنحة والفرط صوتية من الجو والبر والبحر. وقد تأثرت مناطق روسية أيضًا على الحدود المشتركة بأعمال الحرب، حيث طالها قصف أوكراني. كما تأثرت دول كثيرة حول العالم، وخاصة الفقيرة، بهذه الحرب، بسبب توقف واضطراب تصدير القمح الروسي والأوكراني إلى الأسواق العالمية.
ومثلما كان متوقعًا، فقد فشل مجلس الأمن في إصدار موقف موحد والدعوة لوقف الحرب وحل المشكلات من خلال المفاوضات، رغم أن هذه الحرب تشكل أكبر تهديد للأمن والسلم الدوليين، وربما تقود إلى اندلاع حرب عالمية ثالثة نووية. كما فشلت القوى الكبرى في القيام بأي دور، بل اصطفت كل منها إلى جانب أحد طرفي النزاع. وتم توقيع عقوبات اقتصادية وإجراءات عقابية أخرى، منفردة ومشتركة، على دولة روسيا. ولا تزال محاولات الوساطة بين الطرفين ضعيفة ومحدودة التأثير والفعَّالية.
وإزاء الفظائع المرتكبة، تحركت المحكمة الجنائية الدولية، التي تحظى باعتراف 123 دولة، وفتحت تحقيقاتها في جرائم الحرب المرتكبة، وأصدرت بطاقات جلب دولية في حق متورطين. لكن دورها يبقى محدودًا بالنظر لعدم اعتراف دولة روسيا بها، وعدم توفرها على أدوات لفرض إجراءاتها وأحكامها.
إن اندلاع هذه الحرب والأعمال والجرائم المرتكبة فيها والآثار المترتبة عليها يعيد طرح الأسئلة القانونية الأولى بشأن أهمية القانون الدولي وقيمته وإلزامه، ومشروعية الحرب في حل النزاعات، وإفلات مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجرائم العدوان من العقاب. وتضيف إليها إشكاليات جديدة كثيرة مثل: أيعتبر الانضمام إلى تحالفات سياسية وعسكرية حقًّا سياديًّا للدول أم أنه حق محدود ونسبي؟ وكيف يمكن للقانون الدولي ومؤسساته حماية الدول الصغيرة من عدوان الدول الكبرى وبطشها؟ وكيف يمكن تحريك مؤسسات القانون الدولي، وخاصة مجلس الأمن، إذا كان المعتدي عضوًا فيه ويحتفظ بحق الاعتراض (الفيتو)؟ وما دور المنظمات الإقليمية في حفظ الأمن والسلم الدوليين؟
وهل تعطي الاستفتاءات الصورية التي تنظم في المناطق المحتلة المشروعية لغزو واحتلال أراضي الدول الأخرى والسيادة عليها؟ وما موقف القانون الدولي ومؤسساته من ذلك؟ ولماذا فشلت الإجراءات الوقائية في الحيلولة دون اندلاع الحرب بين روسيا وأوكرانيا؟ وهل يشجع ما حصل على اندلاع نزاعات وحروب في مناطق أخرى من أجل تحقيق أهداف جيو- استراتيجية؟ وما سبيل القانون الدولي ومؤسساته لكبح جماح مثل هذه الاتجاهات التي لا تشكل تهديدًا للدول الصغرى فقط، بل للإنسانية برمتها؟
إن هذه الأسئلة وغيرها تحتاج إلى البحث والدراسة من طرف الباحثين في القانون الدولي بمختلف تخصصاته ومجالاته؛ وذلك بغرض الإسهام في تقديم حلول واجتهادات قانونية للمشكلات القائمة والمستجدة، تؤكد أن القانون والمفاوضات هما السبيل لحل النزاعات الدولية والوطنية وتحقيق التعايش بين المجتمعات البشرية، ونبذ القوة والغطرسة والظلم في العلاقات الدولية.